من أبواب الحرية إلى باب الشمس
يغدو الموت صعباً رغم توقّعه وحتميته، فهو يرافقنا كظلنا الذي يلازمنا رغم إرادتنا؛ يسير معنا من أمامنا ومن خلفنا وبجوارنا، يكاد يمسّنا ثم يمضي إذا مرّت سحابة، كي يعود ويباغتنا.
أتخيّلك، يا صديقي، وأنت في لحظاتك الأخيرة، تصفها تماماً كما وصفت صديقك علي أبو طوق الذي استشهد في مخيم شاتيلا، في روايتك مملكة الغرباء (1993)، بين يدي الدكتور يانو، حين انتفضت روحه، وكأنها لا تريد أن تغادر جسده، "فوجئتْ بالموت، وأرادتْ أن ترفضه"، ثم "فجأة زالت القسوة عن وجهه، وعاد طريّاً ومرتجفاً كطفل وضعته أمه منذ ثوانٍ قليلة"، فبعد صبرك ومعاناتك مع قسوة المرض، عُدتَ طفلاً صغيراً يركض نحو الشمس، متسلقاً أشعتها من بابها الذي رسمت.
هكذا تخيّلتك، يا صديقي، وأنت في مسارك الأخير نحو علي أبو طوق، صديقك في سنوات الحرب الأهلية في لبنان، "في الخنادق والبرد والموت، وتحت مطر القذائف، قبل أن تفترق الخطى. علي فدائي في كتيبة الجرمق"، وأنت صرت ما أنت عليه، علي رجل الحصار في مخيم شاتيلا، كما وصفته، وأنت من تجرأ على كسر الحصار حين زرته في حصاره مرّات ومرّات، قبل أن تتحوّل هذه الزيارات المتكرّرة إلى عادة، ولكن لزيارة قبره بين مئات القبور لجثامين لم تجد مكاناً لدفنها إلا في مسجد المخيّم الصغير.
نم قرير العين، فالعودة باتت، رغم حرب الإبادة الجماعية في فلسطين، أقرب بكثير من عودة متخيّلة
بعد حرب عام 1967، وفي سنّ الثامنة عشرة، في سنته الجامعية الأولى، التحق إلياس خوري بقواعد الفدائيين في غور الأردن، يحمل البندقية بيد وكتب الأدب وداووين الشعر في اليد الأخرى. هل كان ذلك بداية طرق أبواب الحرية نحو باب الشمس؟ خلال تلك المسيرة، لم تتغيّر بوصلتك نحو فلسطين حرّة عربية من نهرها إلى بحرها، وفلسطين بالنسبة إليك لم تكن مجرّد وطن ومكان تأوي إليه، بل هي الحلم بالثورة والتغيير والحرية والعدالة لشابٍّ في مقتبل العمر، يحلم بأن يتغيّر العالم بين أصابع يديه، هي نقيضٌ للاستبداد والطائفية والفقر والظلم والاضطهاد. وعلى امتداد مسيرتك، انحزت دوماً إليها، أياً كان خصمها، فأُجبرت على ترك منزلك في حيّ الأشرفية خلال الحرب الأهلية في لبنان، ولم تتمكّن من وداع والدتك أو حضور مأتمها. والآن جاءت اللحظة التي ستعانق فيها جميع أحبتك الذين افتقدتهم عبر مسيرتك. سيستقبلك أبو خالد جورج الذي رافقته إلى مرتفعات صنين، ومحمد علي أبو يعقوب الذي ودّعته في كفرشوبا، يوم ذهبت إليها مع رفاقك لإعادة إعمارها بعد أن دمّرها الطيران الصهيوني، مع المطران حجّار والسيد موسى الصدر والسيد هاني فحص، ورفاقك في الجبهة الوطنية الطلابية، ومحمد شبارو ونذير الأوبري، وإخوتك في أحياء بيروت الغربية الذين ساهمت معهم في الدفاع عنها، وفي تأسيس لجانها الشعبية لإغاثة الفقراء، وإشاعة الأمن، ومكافحة الزعران الذين حاولوا التطاول على الناس في ظروف الحرب القاسية.
أذكر، يا صديقي، يوم جئت إلى منزلي في عمّان مع صديقنا ميشال نوفل، سهرنا بضع ليالٍ نتحاور عن الكتيبة الطلابية، وعن تقدّمها وإنجازاتها وتحولاتها وانتكاساتها وتوقّف مسيرتها. وقد أثمر هذا اللقاء كتاباً أعددتَه وميشال بعنوان: "الكتيبة الطلابية: تأمّلات في التجربة، حوار مع معين الطاهر" (2015). في هذا اللقاء، لم تكن تسأل أو تحاور، بل كنت تحاول أن تعثر على أجوبتك أنت عن أسئلة راودتك بشأن مرحلة احتلت حيّزاً من حياتك ومسيرتك، وبقيت وفياً لها، على الرغم من تحوّلاتها، فهي جزءٌ منك وأنت جزءٌ منها.
في سنته الجامعية الأولى، التحق إلياس خوري بقواعد الفدائيين في غور الأردن
شغلتك فلسطين والعودة إليها، كما شغلك لبنان وبيروت، وانحزت إلى الربيع العربي، كما هو حالك حين طرقت بيديك جميع الأبواب التي تؤدّي إلى الحرية وتناهض الاستبداد، فحوّلت، مع كمال بلاطة وآخرين، النون التي أراد بها الظلاميون في الموصل جعلها وصمة في حاضرنا حين رسموها وسماً على بيوت النصارى، إلى مجد وفخر تزين كل بيوت العرب، فهي الحرف الأخير من فلسطين، ومن العين التي نرى بها وتأتي ثنائية في الإنسان، كما أنها الحرف الأول من الناصرة، بلد المسيح الفلسطيني.
فجعك انفجار مرفأ بيروت، وما مارسته بعض المليشيات الطائفية من اعتداءات على المتظاهرين في ما وُصف بربيع بيروت، فأفردت فصلاً للكتابة عن بيروت بتاريخها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، وكانت سعادتي غامرة بكتابتي فيه مقالاً عن بيروت الفلسطينية، كما طلبت مني. أما فلسطين وحتمية العودة إليها، فقد ألهمتك الطلب إلى الأدباء والشعراء والكُتّاب والفنانين الكتابة حول العودة المتخيّلة، يصف كلٌّ منهم، بقلمه أو بريشته، كيف ستكون العودة، وشاركت فيها لأحمل صديقك علي من مخيم شاتيلا عبر قمّة الجرمق إلى بلدته حيفا، لتستقر فيها روحه التي ارتجفت من هول الحصار ومرتكبيه، وما زالت روايتك لها تُبكينا وتبكي أطفالنا.
نم قرير العين، فالعودة باتت، رغم حرب الإبادة الجماعية في فلسطين، أقرب بكثير من عودة متخيّلة، وعش الآن حياة جديدة في باب شمس جديد، مع أحبتك كلهم بحرية وصفاء.