منصب المفتي .. جدل الديني والسياسي في سورية
الإفتاء هو الجواب الشرعي أو القانوني المتعلق بالقضايا الطارئة التي تتطلب جواباً جديداً نظراً لحدوثها، أو لتوصيف تعلّقها بحالة أو ظروف معينة، ولهذا سُمّيت مدوّنات الفتاوى لدى فقهاء المالكية في الغرب الإسلامي، كتب "النوازل"، جمع نازلة، وهي تعنى ما يسمّى في المشرق كتب "الفتاوى". ويرجع أصل التسمية إلى القرآن الكريم ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾ [النساء: 176]، وقد درج التمييز بين القاضي الذي يفصل في الخصومات، ويكون حكمه ملزماً، والمفتي الذي يبدي الرأي اجتهاداً ولا يكون حكمه ملزماً، فيمكن السائل أن يسأل أكثر من مفتٍ، ويعمل بما يطمئن له قلبه، بل هذا ما هو مأمور به، وهو معنى ما رُوي في الأثر النبوي "استفتِ قلبكَ: البرُّ ما اطمأنتْ إليهِ النفسُ، واطمأنَ إليهِ القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في النفسِ وتردّدَ في الصدرِ، وإن أفتاكَ الناسُ وأفتوكَ". وقد درج الفقهاء تاريخياً على نسبة الفتوى إلى المدرسة التي يعتمدها المفتي، فيُنسب المُفتون عادةً إلى المذاهب التي ينتمون إليها، فيقال مفتي المالكية أو مفتي الحنفية وهكذا. وغالباً ما يترشّح من الفقهاء لهذه الألقاب من تميز من الجماعة العلمية في الإقليم، وتعارفت على مُكنته في معالجة ما يستجدّ على الناس من نوازل. وكان يجري هذا العرف بعيداً عن اختيارات الحكام والسلاطين، أو تدخلاتهم، ولو حصل وتدخل السلاطين في ذلك أو ساير المفتي الحاكم أو غيره من غير مستندٍ علميٍّ، عُدَّ ذلك علامة قادحة بالمفتي أو الفتوى، حتى جرى في مصنّفات الفقهاء الحديث عن المفتي الماجن، الذي عُرّف بأنه "الذي يعلّم الناس الحيل، وقيل: الذي يفتي عن جهل". وصُنِّف ضمن من يجوز الحجر عليهم، لكونه ممن يُفسد على الناس دينهم، كالطبيب الجاهل. وقد اتخذ السلاطين تاريخياً من الفقهاء من يجد لهم المخارج في اختياراتهم، لكن ذلك لم يكن معبرًا عن اختيار الجماعة العلمية التي كانت تنأى بنفسها عمن يتقرّب من السلاطين. وكانت ثمة ألقابٌ كثيرة تعبّر عن مكانة النابغة من العلماء، أبرزها لقب "شيخ الإسلام" الذي يرجع استعماله إلى القرن الرابع الهجري كلقب شرفي اختصّ به قلائل من العلماء، ممن اقتدروا على حل مشكلات شائكة أو تميزوا عن أقرانهم. وظل هذا اللقب ونظائر له متداولاً على سبيل التعارف العلمي. وفي العموم، يرجع تنظيم طبقات العلماء إلى عهد العباسيين والفاطميين، قبل تقنينه في السلطنة العثمانية التي أحدثت مشيخة الإسلام، والتي يرجع تأسيسها، حسبما تؤكّد الدراسات، إلى قانون محمد الفاتح في القرن التاسع الهجري، الذي تضمّن منصب شيخ الإسلام، ووصف بأنه "رئيس العلماء". وكان شيخ الإسلام الشخصية الثالثة في الدولة من حيث الأهمية، بعد الوزير الأول والسلطان، وترجع إليه الكلمة الأخيرة في القضايا الحقوقية والدينية للدولة. وكان ثمة تداخلٌ بين لقب شيخ الإسلام والمفتي الأكبر ومهام القضاء والتعليم الديني وما دونها، التي ترجع جميعاً إلى مشيخة الإسلام ضمن تنظيم هرمي مفصل. على أن تشكيل مشيخة العلماء لم يكن مفروضاً بقوة السلطان، إنما يرجع إلى تأثير التيار الصوفي في الدولة العثمانية الذي كان يعبّر عن ضمير الشعب، ولم تكن العلاقة بين شيخ الإسلام والسلطان على وفاق دائم، إذ تروي المصادر عن حالات إقالة أو استقالة لشيوخ الإسلام لأسباب دينية أو سياسية كانت موضوع خلافٍ بين السلطان وشيخ الإسلام.
لا يخفى العبث السياسي الفاضح بالشأن الديني في العقد الماضي في سورية، ولا تفهم القوانين والمراسيم أخيراً إلا تغطيةً قانونية لهذا العبث
مع سقوط السلطنة العثمانية، ونشوء الدولة الحديثة في العالم العربي، نشأ منصب مفتي الدولة في العهد الفيصلي، وكان في ما يبدو وريث منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، لكن مهامه كانت مقصورةً على الإفتاء العام، وتمثيل رأي العلماء أمام الدولة، وبينما كان شيخ الإسلام يعيّنه السلطان، وفق آلية وترشيح تُراعى فيهما مكانته بين العلماء، أصبح المفتي يُنتخب من هيئة العلماء في البلد، فكان أول مفتٍ لبلاد الشام محمد عطا الله الكسم منذ بداية العهد الفيصلي 1918 وحتى وفاته 1938. ولم يكن هذا الأمر خاصاً بدمشق، بل كان مفتو المحافظات يُنتخبون أيضاً من علماء المدينة، وكان الانتخاب جدّياً، ويعبّر عن تنافس حقيقي. ففي عام 1922 ترشّح لمنصب مفتي حلب ثلاثة علماء، وفاز بالمنصب أصغرهم سناً، بنسبة 41% من الأصوات التي أدلى بها 108 من المشايخ المقترعين. وظل منصب الإفتاء بالانتخاب، وكان آخر المفتين المنتخبين في سورية أحمد كفتارو المقرّب من حزب البعث، حين فاز عام 1964 بفارق صوت واحد (18 صوتاً) مقابل خصمه وخصم حزب البعث حسن حبنكة الميداني (17 صوتاً)، وظل كفتارو في المنصب أربعين سنة حتى تاريخ وفاته عام 2004، وظل المنصب بعده شاغراً أشهراً، قبل أن يشغله بالتعيين عام 2005 بمرسوم رئاسي انتهى مفعوله بقانونٍ تنظيم الأوقاف في سورية 2018 الذي حدّد مدة شغل منصب الإفتاء بثلاث سنوات قابلة للتجديد. ومع انتهاء المدة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لم يصدر تجديد، ولا تعيين لمفتٍ جديد، بل صدر تعديلٌ على قانون الأوقاف بمرسوم رئاسي، ألغيت بموجبه جميع المواد الخاصة بتعيين مفتٍ للجمهورية أو مفتين في المحافظات، وأناط المرسوم مهمة الفتوى بمجلس سمّي "المجلس العلمي الفقهي"، اليد العليا فيه لوزير الأوقاف رئاسة وتعيين أعضاء، نُصّ فيه على أن يكونوا من مختلف المذاهب (الطوائف) الإسلامية.
إلغاء منصب المفتي جاء جرحاً لمشاعر الشريحة الأوسع من السوريين الذين رأوا في إلغاء منصبٍ له رمزيته إهانة لهم، ولو كان فولكلوراً
وقد أثير جدل كبير بين السوريين بشأن هذا التغيير، دينياً وسياسياً. وفي تحليل أبعاد هذا الإجراء وخلفياته، على الرغم من السخط الواسع على المفتي المستهدف به مباشرةً، الذي لم يفوّت خصمه وزير الأوقاف الفرصة، بإدانته علمياً باسم المجلس الذي سيحلّ مكانه، إثر تفسيره سورة التين تفسيراً سياسياً مفضوحاً يُدين فيه من اضطرّوا إلى ترك أوطانهم بحثاً عن الأمان وهرباً من القتل والتدمير. ولفهم مشروعية هذا الجدل حول ما جرى، يحسن التنبيه إلى أمرين مهمين: الأول: إنّ منصب مفتي الجمهورية رمزي بالدرجة الرئيسية، ويُعَدّ من المكونات الشكلية للدولة العربية الحديثة، التي ورثت السلطنة العثمانية، فكانت دولةً هجينة، فهي دولة إسلامية لها صلة بالدولة التاريخية، ويمثل رمزية إسلاميتها منصب المفتي شكلياً، بغضّ النظر عن مهامه ومن يشغله، مقابل المناصب الرسمية الأخرى التي تعبّر عن الدولة العلمانية الحديثة. وبالتالي، كان إلغاء المنصب جرحاً لمشاعر الشريحة الأوسع من السوريين الذين رأوا إلغاء منصبٍ له رمزيته إهانة لهم، حتى ولو كان فولكلوراً. وزاد الاحتقان أن من أنيطت به مهام هذا المنصب (السني)، هيئة علمية شكلاً سياسية فعلاً، وتضمّ بين أفرادها ممثلين عن مذاهب (طوائف) لم يُمَسّ بمرجعياتها الدينية ومناصبهم، فضلاً عن أن هذا الإجراء لم يسبقه حوار ديني أو مجتمعي، بل كان قراراً سياسياً، ويحمل في طياته معاني الانتقام المباشر من مفتٍ سابق، ومعاني الاستهتار بالمنصب التمثيلي الرسمي لأغلبية المجتمع السوري، في مرحلةٍ يشهد فيها المجتمع السوري تغييراً ديمغرافياً وطائفياً، عقب أوسع تهجير سكاني في العصر الحديث. الأمر الثاني: ما جرى ينبغي فهمه ضمن استراتيجية أوسع، بدأت في السنوات الأخيرة قبل الثورة، وترافقت مع تسلُّم وزير الأوقاف الحالي، حيث بُدئ بمركزة تأميم الشأن الديني بيد وزير الأوقاف، بعد أن كانت الجمعيات والمعاهد الدينية ذات استقلالية نسبية. ومن خلال الوزير المذكور، مُرِّرَت إجراءاتٍ، بالتنسيق مع وزارات أخرى، تمسّ الحريات الدينية، كمنع النقاب في الوظائف العامة، وتقييد سنوات التعليم الشرعي، وغير ذلك من إجراءاتٍ تندرج في سياق "علمنةٍ" شكليةٍ قسريةٍ، تتوسّل تبريراً دينياً رسمياً. وقد أورثت هذه الإجراءات قلقاً واحتجاجاً في الوسط الديني حينها، استجيب لها استجابة محدودة، قبل أن تتوقف مع اندلاع الثورة السورية التي كان من العوامل التي أجّجتها تلك الإجراءات المقيدة للنشاط الديني، مع إطلاق يد الحملات التبشيرية بالتشيع في غير مكان في سورية. وإضافة إلى ما سبق، لا يخفى العبث السياسي الفاضح بالشأن الديني في العقد الماضي في سورية، ولا يمكن فهم القوانين والمراسيم، أخيراً، إلا بوصفها تغطيةً قانونية لهذا العبث المستمر، الذي يبقى أمراً غير ذي بال، إذا ما قورن بالاستهتار بأرواح الناس وكرامتهم.
وتأكيداً لهذه الرمزية الدينية والسياسية لمنصب المفتي، بادر المجلس الإسلامي السوري إلى اقتناص الفرصة، وإعلان مفتٍ عام للجمهورية العربية السورية، مؤكّداً، في الآن نفسه، استعادة استقلالية المنصب كما بدأت في العهد الفيصلي، وهي خطوةٌ تحتاج خطواتٍ أهم تؤكّد شفافية هذا الاختيار، وتعيد تعريف التصورات الشرعية لمنصب المفتي في العصر الراهن، وأن تستعيد أيضاً مشروعية الظرف التاريخي التي أسّست حينها لمنصب المفتي المنتخب، الذي ترافق مع انتخاباتٍ أخرى سياسية، وإجراءاتٍ دستوريةٍ ضمنت هذه الاستقلالية للشأن الديني حينها، قبل قرن.