مناهضة الإمّعية في مقدمة الوطنية السورية
تهيئ المقدّمات مزاجَ الُمقدَّم إليه للولوج إلى المُقدَّم له، ومن ثم تهيئه للفهم وإنتاج المعنى، أي للتفكير الذي يتضمّن التواصل والحوار والنقد والتصويب. والمقدّمات ضرورية لكل جديدٍ ومُبتكر ليكون في عالم المفهومات؛ فالمفهومات تقارَب ولا تُعرّف، وتقبع مقدمةٌ سليمة في بداية كلِّ مقاربة سليمة. ولا تعيش المفهومات من دون مقدّمات، لأنها تنتج منها، وتكون من جنسها. ولأن الوطنية السورية مفهومٌ، فإن مقدّماته لا تنفصل عنه، وإذا فُصلت تصير الوطنية تحديدًا وتعريفًا؛ فتتحيز وتقصي وتخوِّن وتكفِّر، ومن ثم تصير مضادّة لطبيعتها، ومُسخَّرةً ضد جوهر فكرتها ومقاصدها: أي تصير "مقلوب الوطنية"، ومقلوب الوطنية هو أدلوجتها التي تقسم البشر وفق معاييرها المحلية ووعيها الأيديولوجي إلى صالحٍ وطالح وجماعتهم وجماعتنا.
هذا الكلام نفسه أيضًا مقدّمة، وإذا اتفقنا على صحته منهجيًا، فإننا نتفق على ضرورة وجود مقدمات للوطنية السورية يقع على عاتق السوريين التفكير بعمقٍ فيها. تكون هذه المقدّمات للوطنية، كالعتبة للمنزل: لا ندخله إلا بوساطتها، وأيضًا لا نخرج منه إلا بوساطتها؛ وكأننا نقول إن الذي يدفعنا إلى خارج الوطنية هو نفسه الذي يدفعنا إليها من الباب نفسه. والدافع الذي نقصده هو الاختلاف: اختلاف الانتماء الديني والطائفي والإثني والحزبي والأيديولوجي، وحتى اختلاف الرأي وطرائق العيش وفهم الموت والحياة؛ فمن جهة يكون الاختلاف مادةَ الألم في الحرب والشقاق، ومن جهةٍ أخرى يكون مادةَ الوطن في السلم والتعاقد والاشتقاق، ولولا الاختلاف لفقدت فكرة التحزّب وجودها، واختفت فكرة التشظي، ولولاه أيضًا لفقدت فكرة الوطن معناها واختفت فكرة الوحدة، أو لما كان لها أي معنى؛ فالوطن في جوهره مفهومٌ سياسي اجتماعي، يسمح بتعاقد المختلفين ليتّحدوا، ويصيروا مجتمعًا سياسيًا واحدًا: أي ليصيروا قابلين للاجتماع ومؤهلين للعمومي، وبجملةٍ أخرى أوضح: ليصيروا شعبًا واحدًا كما أرادت الثورة السورية في لحظة بناء مشروعها.
الإمّعة تابع، والإمّعية تابعة عمياء لجماعة مغلقة متكورة ومحلية، ترى نفسها فوق البشر والبشرية، وترى في نفسها العصمة والحكمة والمجد إلى الأبد
إذًا؛ للتعبير عن الاختلاف طريقان: طريقٌ مستقيمٌ وطني إنساني، منه يرى المرء الدنيا من فوق، ويؤهل نفسه لهذا النوع من الرؤية باستمرار؛ فينظر إلى سوريته بدلالة إنسانيته، ويقبل الآخر بحبٍ وانفتاح، ويرى وحدة شعبه في تعدّديته؛ وطريقٌ آخر متعرّجٌ، مسالكه عصبوية، فيه يتكور المرء على ذاته، ولا يرى إلا نفسه بعينٍ قاصرة تُصوِّر له الدنيا معي أو ضدي.
وصحيحٌ أن الجماعات الطائفية والإثنية والدينية والمناطقية والعشائرية هي عصبوية، ولكن جماعة الطغمة الحاكمة هي أكثر الجماعات السورية عصبويةً وتكورًا على ذاتها، لأنها أكبر تجمّعٍ للإمعات في سورية، والإمّعية شرط العصبوية وأساس وجودها. ولذلك يمكن أن نقول إن طريق الوطنية يمرّ بالضرورة في محطة إسقاط النظام، كما يمر إسقاط النظام في مشروع الوطنية السورية.
مناهضة الإمّعية عملٌ ينتمي إلى مقدّمات الوطنية السورية؛ فالجماعة تحافظ على نفسها من طريق وطنيتها، وطريق وطنيتها يمر بمناهضة الإمّعية ونبذ الإمّعات فيها
الإمّعة تابع، والإمّعية تابعة عمياء لجماعة مغلقة متكورة ومحلية، ترى نفسها فوق البشر والبشرية، وترى في نفسها العصمة والحكمة والمجد إلى الأبد؛ فإذا كانت الجماعة مبنيةً على الإمّعية مثل جماعة الطغمة الحاكمة، فهي بالضرورة جماعةٌ غير وطنية، وتفكيكها ضروري لحياة البشر. وبالنتيجة المنطقية، نقول إن كل جماعةٍ تُبنى اجتماعيًا على الإمّعية بوصفها شرطًا لعضويتها، هي جماعةٌ مضادّةٌ للوطنية، وتفكيكها ضرورةٌ من مقدّمات المشروع الوطني، لأنها مضادّةٌ للفردية وساحقةٌ لها (بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة)، وليس سحق الفردية إلا سحق خلية الوطنية الأولية، ومادة الوطن، وهي المواطن/ الإنسان.
ولذلك من الضروري أن نسأل في فضاء الحوار الوطني العمومي: هل توجد في سورية جماعة إمعاتٍ غير الطغمة الحاكمة؟ نعم، ومع وجود فوارق أخلاقية بينها وبين جماعة النظام، إلا أنها أيضًا مضادّةٌ للوطنية، لأنها جماعةُ إمّعاتٍ عصبوية. هكذا يضعنا هذا التفكير في موضع استشعار ضرورة إطلاق حوارٍ عمومي للتفكر من جديد في مفهوم الأيديولوجيا، وجدوى الوعي الأيديولوجي، وموقفنا من الأيديولوجيات التي لم تصنع إلا إمعاتٍ تفهم الانتماء إلى الأحزاب مثل انتماء دريد بن الصمة إلى غزية: إن غوت غوى وإن ترشد غزية يرشد. .. ومن هذا المدخل، يمكن مراجعة شكل العضوية وشروطه في الطائفة والقبيلة والإثنية وإلى ما هنالك. وأيضًا، يضعنا هذا التفكير في موضعٍ نستشعر فيه أمرًا آخرَ، مُهمًا ولافتًا، وهو ضرورة إنجاز مراجعةٍ عموميةٍ على المستوى الوطني لطريقة ممارسة الإسلام للسياسة، وفشل الإسلاميين في بناء إسلامٍ وطني؛ فمن المستهجن أن تكون أغلبية الجماعات الإسلامية السورية جماعات إمّعاتٍ عصبوية: مستهجنٌ لأن الإسلام نظريًا حارب العصبوية، ولم يكن يميل إلى فكر الطاعة بالعموم، بل كانت الطاعة موضوع نهي واستنكار أكثر مما هي موضوع أمر (كما يلاحظ محمد عابد الجابري)، وكان الأمر في أغلبه "لا تطيعوا"؛ فالآيات التي تنهى عن الطاعة كثيرة متعدّدة، منها: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (الأحزاب، 67)، ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾ (القلم، 10)، ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الشعراء، 151)، ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام، 116)، وحتى الوالدان الموصى بهما خيرًا وبرًا، جعل الله طاعتهما مشروطة: ﴿َوإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت، 8)، وفي الحديث الشريف: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا". ولكن، مع ذلك ثمة في سورية اليوم جماعات إمعاتٍ على أسس إسلامية، وكثيرٌ منها فصائل مسلحة.
الإمّعية بوصفها ظاهرةً سياسيةً منتشرة مثل ورمٍ غير حميد، وتؤدّي دائمًا إلى إرادةٍ عامةٍ قاصرةٍ تُنتج الخطأ وتراكمه
لا يستقيم اليوم أن يكون المرء سوريًا إذا كان إمّعة؛ فالسورية تتناقض مع الإمّعيِّة، ومناهضة الإمّعية اليوم منهجيةٌ إيجابية وعمومية لتعيين مفهوم الفرد، بدلًا من الموقف المتحفظ إزاء الجماعات الذي يستفز شريحةً عريضةً من السوريين، ويفرّق أكثر ممَّا يجمع. ومناهضة الإمّعية عملٌ ينتمي إلى مقدّمات الوطنية السورية؛ فالجماعة تحافظ على نفسها من طريق وطنيتها، وطريق وطنيتها يمر بمناهضة الإمّعية ونبذ الإمّعات فيها.
ونلاحظ أن الإمّعية تمدّدت وتحوّلت إلى منهجية، وطريقة للعمل يستخدمها بعض السياسيين حتى بات مشهد جموع الإمّعات في المعارضة السورية مألوفًا وطبيعيًا في يوميات السوريين؛ فصار عاديًا أن يوجد في صفوف الساسة السوريين إمّعات لدولٍ معينة، وإمّعات لشيخ، وإمّعات لأمين عام، وإمّعات لرجل أعمال صاحب نفوذٍ مالي، وإلى ما هنالك..
وأخيرًا، تمهد مناهضة الإمّعية في الفضاء العمومي لبناء رأس مال اجتماعي وطني، وتفادي الطفرة في الإرادة العامة؛ فهذه الإمّعية بوصفها ظاهرةً سياسيةً منتشرة مثل ورمٍ غير حميد، وتؤدّي دائمًا إلى إرادةٍ عامةٍ قاصرةٍ تُنتج الخطأ وتراكمه.