منافسة بطعم الفضيحة في المغرب
لم يكد المغرب ينهي سنة 2022 بفرحةٍ عارمةٍ، ويبتهج بإنجاز فريقه الوطني في مونديال قطر، حتى بدأ سنته الجديدة بفضيحةٍ ألهبت مواقع الاتصال الاجتماعي، وأشعلت الأحاديث الحادّة والنقاشات الساخنة في المقاهي والصالونات، حتى لم يبق عاقلٌ واحدٌ، إلا وأدلى بدلوه بشأن ملابسات مباراة (منافسة) التأهل لمزاولة مهنة المحاماة، حيث حامت شكوك كثيرة بشأن الظروف والنتائج التي أفرزتها هذه المباراة، فمن قائلٍ إنه طاولها غشٌّ كبير، حيث اتصفت بالزبونية والمحسوبية، فتمخضت عموما عن نجاح بنات الأعيان وأبنائهم، ورسوب معظم المتقدّمين من الطبقة الشعبية، بدليل أن أسماء فائزين عديدين تنتمي إما إلى أسر معروفة بغناها أو جاهها في المجتمع، أو إلى أسر يشتغل أربابها في قطاع العدل. وعلاوة على ذلك، وقعت أشياء مريبة تتمثل، مثلا، في عدم تطابق بعض أسماء الناجحين والناجحات مع الأرقام التي أعطيت لها قبل المنافسة، فحصل أن نجحت بعض أسماء المتبارين المنتسبين إلى عائلات "معروفة" بأرقام بعض أسماء المتنافسين المنتسبين إلى أسر "مغمورة"، والذين كان من المفروض أن يكونوا هم الناجحين. ومن قائل يقول إن أسئلة المنافسة سرّبت إلى بعض المتنافسين بدقائق قبل البدء في الإجابات، وإن "النقل" كان على أشدّه، وإن مراقبين كانوا يغضّون الطرف على بعض دون بعض آخر.
ساهم وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، في تغذية هذه الإشاعات حين زلّ لسانه، وكثيرا ما يزلّ، وسقط في فخّ سؤالٍ مستفزّ وجّهه له أحد الصحفيين عن نجاح ابنه في الامتحان، فأجاب بعصبيةٍ بالغةٍ فيها كثير من التعالي: هذا الابن نجح لأنه يحمل إجازتين من كندا، ولأن أباه الذي "لا بأس عليه"، أرسله للدراسة في الخارج. .. وهذا ما يعني، بالدارجة المغربية، أنه رجل ثري، وأن له ما يكفي من المال لصرفه على دراسة ابنه في أغلى الجامعات تكلفة في الخارج، فلا غرابة، والحالة هاته، أن يكون من أول الناجحين في هذه المنافسة، إذا ما قورن بأبناء الفقراء الراسبين الذين لا حول لآبائهم ماديا ولا قوة.
هنا طفح كيل الإهانة والاحتقار، لأن كل من أحسّ إحساسا عميقا بالغبن لم يكن ينتظر سوى هذه العثرة الجديدة من الوزير الذي كان قد أطلق، منذ بداية توليه حقيبة العدل، تصريحاتٍ طائشة ومستفزّة، تسببت له في انتقادات كثيرة حادّة من صحفيين ونواب عديدين. كما أنه دخل، وهو المنتمي إلى سلك المحاماة، في خلاف عنيف مع جمعية هيئات المحامين في المغرب، بسبب نقصٍ في التواصل أولا، وثانيا وأساسا بسبب سحب مسودة مشروع قانون المهنة الذي صيغ بشراكة مع وزارة العدل ونخبة من المحامين، وعندما اطّلع عليه الرأي العام المهني بعد صياغته الأخيرة، وجد أنه استبعد جميع التراكمات السابقة التي حقّقتها الهيئة. وهذا ما أجّج غضب المحامين، سيما بعدما وجدت أن القانون جاء بأشياء جديدة لم يجر الاتفاق عليها سلفا.
إلى متى تبقى الحكومة صمّاء عن أي مطلب إصلاحي، لا تعير اهتماما لكل هذه الاحتقانات الاجتماعية التي تحتدم يوما بعد آخر؟
وعلى الرغم من أن هذا الوزير المعروف بإثارته جدلا كثيرا قد اعتذر، في لقاء صحفي له مع أحد الصحفيين المقرّبين من الحكومة، إلا أن السيف سبق العذل، خصوصا وأن اعتذاره لم يكن فيه ما يكفي من لهجة تدل على حرارة الصدق، وهذا ما حمل عديدين على مطالبته بالاستقالة.
وبما أن ثقافة الاستقالة ليست واردة في وزراء العرب، إذ أنهم، في معظم الدول العربية، يُقالون ولا يستقيلون، فقد أجاب الوزير الصحفي بابتسامةٍ ساخرة، وهو واثق من نفسه لمّا سأله إن كان ما زال وزيرا للعدل وأمينا عاما لحزبه: لا زلت وزيرا للعدل وأمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة، وأنا مرتاحٌ مع نفسي، وليست هذه الزوبعة الصغيرة ما ستدفعني إلى الاستقالة. وقد دافع الوزير، في أثناء الاستجواب، عن نفسه بحججٍ رآها بعضهم واهية، ورآها آخرون منطقية، حتى ولو كان رأيهم يمثل أقلية، لكن الغموض بقي سائدا والشكوك ظلت محتدمة، سيما وأن الحكومة أغلقت فمها بسبعة أقفال، وتصرفت بالحكمة القائلة: "كم من أمور قضيناها بتركها".
ولكن إلى متى ستبقى هذه الحكومة صمّاء عن أي مطلب إصلاحي، لا تعير اهتماما لكل هذه الاحتقانات الاجتماعية التي تحتدم يوما بعد آخر؟ فثمن المحروقات لا زال الأغلى عربيا، واشتعال أسعار المواد الأولية قد بلغ منتهاه في الآونة الأخيرة، حين مرّره المسؤولون خلسةً، كما يمرّر الدواء المرّ مع شيء من العسل. وقد اختاروا الوقت المناسب، حين كان المغاربة منتشين بإنجاز فريقهم الوطني في المونديال.
أما آن الأوان لحسم الموقف بوضع حد لهذه الزوبعة التي لم تكن بالصغيرة ولا بالهينة كما وصفها الوزير المغربي، حتى يسترجع المغاربة قليلا من الأمل في أن الإصلاح يمكن الركون إليه متى ما تأكّدوا من وجود نية لإقراره؟