ممرّ الماراثون من بيروت 1982 إلى غزّة 2023
تتقاطع الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزّة مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في الأهداف، لجهة تصفية المقاومة الفلسطينية. ويبقى أن أكثر أوجه التشابه يظهر في عدم التكافؤ بين جيش جرّار تسانده الولايات المتحدة وأوروبا، مسلح بأحدث أنواع الأسلحة الأميركية، في مواجهة عدة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين لا يمتلكون سوى الأسلحة الفردية ومضادّات الدروع وصواريخ محلية الصنع، يتحرّكون على مساحة محدودة، محاصرة من البرّ والبحر والجو، وتصل إليها النيران الإسرائيلية من الجهات كافة. وفي الحاليْن، يخمّن من لا يعرف الجغرافية جيدا أن الحرب تدور على جبهة طويلة، في حين أنها تحدُث على حدود مدينةٍ مكتظّة بالسكان. وفي بيروت، بقي جيش وزير الحرب الإسرائيلي أرئيل شارون حينذاك قرابة ثلاثة أشهر، ولم يتمكّن من دخول المدينة إلا بعد مغادرة قائد المعركة ياسر عرفات في 30 اغسطس/ آب 1982. والحال يتكرّر في غزّة التي تحشد إسرائيل لدخولها نخبة كبيرة من جيشها، ولكنها لم تحقّق تقدّما بعد مرور أكثر من شهر، مع أنها ارتكبت سلسلة من المجازر في حقّ المدنيين، حولت فيها أحياء من غزّة إلى مقابر للأطفال، على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
في الحالين، لا يستسلم الفلسطينيون. لا يرفعون الراية البيضاء. يدافعون ببسالةٍ ملحمية. يقدّمون الشهداء، قافلة تلو الأخرى. وفي شهادة لأحد جنرالات إسرائيل، الذي قاتل في أكثر من حرب ضد الفلسطينيين، يقول "نقتلهم، لكنهم يعودون ليقاتلونا في المعركة الثانية". ولم يجد تفسيرا لهذه المعجزة، لأنها عصية على عقل المستوطن، الذي جاء من بعيد ليسلب أرض الفلسطيني وبيته، ويعمل على تزوير التاريخ. ورغم كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، لم تتعلم من الدروس ويتطور وعيها، ليفهم سبب المقاومة من جانب الفلسطينيين. ولم تكلف نفسها البحث في السر الذي يجعل الأبناء لا يقلون عن الآباء إصرارا على استرجاع الحقوق.
تضع إسرائيل اليوم هدفا رئيسيا للحرب هو القضاء على حركة حماس. وتبحث إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بترتيبات الوضع في غزة ما بعد حكم حركة حماس. ما أشبه اليوم بالبارحة. في 1982 كان هدف رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن طرد منظمة التحرير من لبنان، وساندته في ذلك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ريغان. ووظفت واشنطن ثقلها لتوزيع مقاتلي المنظمّة على عدة بلدان عربية، كي تنهي كل تهديد محتملٍ لإسرائيل وينام المستوطن بهدوء في بيت الفلاح الفلسطيني. ولكن المفاجأة جاءت من داخل فلسطين في الانتفاضة الأولى عام 1987، التي أحيت القضية الفلسطينية. وبالتالي لن تكون نتائج الجولة الحالية في غزّة سوى ولادة مستحيل فلسطيني جديد، أقوى من المستحيلات السابقة، التي شكلت معجزة الفلسطيني المقاوم منذ عام 1948. قاوم التخلي عن هويته، ويتحوّل إلى لاجئ، وتصبح قضيته فائض قيمة لمشكلات الشرق الأوسط، بل باتت القضية المركزية، وستبقى. ومع كل حربٍ جديدةٍ يولد جيل فلسطيني في ممرّ الماراثون، ينقل الراية إلى الجيل الذي يليه.
وكما هو الحال في كل حرب، تتكرّر المقاربة ذاتها في الحفاظ على أمن إسرائيل، ولا سبيل إلى ذلك سوى التخلّص من الفلسطينيين، بالقتل والتهجير. وفي هذه الحرب، كانت الوقاحة الإسرائيلية والأميركية والأوروبية أكبر منها في بقية الحروب السابقة، حيث جرى طرح تهجير أهل غزّة إلى سيناء، وأهالي بعض مخيّمات الضفة الغربية إلى الأردن. ومن هنا، ستكون فاتورة البقاء على أرض الوطن عالية جدا، وستُصبح العنوان الرئيسي للصراع في المرحلة المقبلة، في ظل استنفار إسرائيلي ودعم غربي بلا حدود، من أجل ضمّ ما بقي من أرض فلسطين.