ملاحظات ساتلوف واللوبي الصهيوني
طرح المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، روبرت ساتلوف، ملاحظاته المترتبة على جولته الإقليمية، في نهاية الشهر الماضي، على دولٍ عديدة، وهي ملاحظاتٌ تحمل الأفكار نفسها التي يسعى إلى تأكيدها، سواء زار المنطقة أم لم يزرها (باختلافات بسيطة بعضها متعلق بالارتياح السعودي الناجم عن مرحلة ما بعد اتفاقهم مع إيران)، وتتمثل في أنّ هنالك رغبة عربية مشتركة مع إسرائيل في القضاء على حركة حماس، كما يخبره (بحسب زعمه) السياسيون العرب في الغرف المغلقة.
هي النبرة نفسها (أزعم أنها وإنْ تنطبق على بعض السياسيين والمسؤولين العرب، فليس على الجميع)، لكن الجديد والأسوأ (في كل ملاحظاته) هو الاستهانة والاستهتار الشديد بالشهداء الفلسطينيين، الثلاثين ألفاً المدنيين وغالبيّتهم من الأطفال والنساء، وبعشرات الآلاف من الجرحى، وبمئات الآلاف من المهجّرين، وبحرب التجويع والقتل والقصف والتعذيب، إذ اعتبر الباحث والخبير الصهيوني ذلك كلّه بمثابة أضرار جانبية (Collateral Damage)، لا مناصَ منها. وقارن، كما هو متوقّع، بين ما تفعله إسرائيل وما فعله نظام الأسد بتهجيره ملايين السوريين وقتلهم واعتقال عشرات الآلاف... إلخ.
يعترف ساتلوف بأنّه لم يجد في المجتمع الإسرائيلي أي مشاعر تعاطف مع الفلسطينيين، ولا مع المدنيين من الأطفال والنساء، وبات الحديث عن حلّ الدولتين غريباً في الأوساط الشعبية الإسرائيلية، وهو، وإن كان يمتدح إدارة بايدن وقدرتها على ضبط الصراع وعدم تمدّده إقليمياً، يرى، في المقابل، أنّها لم تقم بما يكفي لردع من يسمّيهم "وكلاء إيران" من تهديد المصالح الأميركية والإسرائيلية، كما تفعل المليشيات العراقية في العراق وسورية، وحزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن، وهو يعدّها ست جبهات (إذا أضفنا جبهتي الضفة الغربية وغزّة) في الحرب الإسرائيلية الراهنة.
ينتمي ساتلوف ومعهده إلى التيار الصهيوني المؤيد بشدّة لإسرائيل، وتمويله من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. وبالرغم من ذلك، يحظى بصداقات عربية عديدة، ويعكس، في الوقت نفسه، موقف (واتجاه) اللوبي الصهيوني التقليدي المؤيد لإسرائيل، ولليمين السياسي هناك، وهو تيار قوي وعالمي النفوذ، ويذكّرنا بعبارات مهمة ما أكثر ما كان يردّدها السياسي الأردني الراحل، عدنان أبو عودة، إنّ من يرى المعركة مع إسرائيل في حدودها الجغرافية لا يدرك أبعادها الحقيقية، وجبل الجليد الغاطس تحت الماء من القوة الإسرائيلية، التي تتمثّل في المشروع الصهيوني العالمي وأذرعه الكبيرة في مجالات السياسة والإعلام والثقافة والفن. وقد رأينا كيف أنّ المكارثية السياسية استُحضرت مرّة أخرى ضد كل من تسوّل له نفسه انتقاد إسرائيل والتعبير عن أسفه للضحايا المدنيين والمجازر غير المسبوقة.
أحد الأصدقاء الديبلوماسيين العرب المخضرمين أسرّ لي أنّه، على الرغم من معرفته المسبقة بحجم اللوبي الصهيوني في السياسات الأميركية والغربية، فوجئ هذه المرّة وصُدم من تأثيره الذي فاق جميع توقعاته في السجالات الديبلوماسية والسياسية في العواصم الغربية. والطريف أنّ قصة الغرف المغلقة لا تقف عند المسؤولين العرب، فالأوروبيون والغربيون الذين يقابلهم المسؤولون العرب ينتقدون بشراسة الغطرسة الإسرائيلية، لكنّهم في التصريحات الإعلامية لا يجرؤون أبداً على ذلك، ويخشون من العواقب السياسية الداخلية والخارجية!
في محاضرته في المنتدى الفلسطيني في الدوحة، قبل أسابيع، تناول المؤرخ اليهودي المعروف، إيلان بابيه، موضوع اللوبي الصهيوني، وذكر أفكاراً جديرة بالاهتمام، منها أنّه يستند إلى أبعاد دينية ورمزية، وأنّ أول من ابتكره هم الإنجيليون الأصوليون في أميركا، في منتصف القرن التاسع عشر، لارتباطه بـ"وعود العهد القديم"، لكن بابيه نفسه رأى أنّ قوة اللوبي الصهيوني بدأت تتراجع وتتفكّك مقابل تصاعد الأصوات الناقدة له، خاصة لدى جيل الشباب في أميركا والغرب، وربما نستطيع أن نأخذ جرأة جنوب أفريقيا في المحكمة الجنائية الدولية وقرار المحكمة العمّالية البريطانية في قضية البروفسور ديفيد ميلر الذي فُصل من جامعة بريستول بسبب آرائه النقدية التي اعتبرت معادية للصهيونية، نموذجاً على الممانعة المتصاعدة ضد اللوبي الصهيوني، إذ اعتبرت المحكمة آراءه فلسفية ومحميّة بموجب القانوني.