مقتل زعيم داعش .. في متن الواقعة
سيبدو تكراراً للقول ونسخة مشابهة من التحليلات عن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل ثلاثة أيام أن نؤكد أنّ مقتله لا يعني نهاية التنظيم وخطورته، والتأكيد كذلك على أنّ الإشكالية الحقيقية ليست في قتل الزعماء أو القضاء على عناصر مقاتلين، بل في الواقع الذي ينتج "داعش" أو أي تنظيم آخر، ومن دون حلول سياسية توافقية وتصالحية، فإنّ التطرف، من أكثر من جهة وطرف، سيبقى يقتات على مشاعر الإحباط والخوف والتهميش والشعور بالخطر.
لكن في واقعة مقتل أبو إبراهيم القرشي أكثر من قضية تستحق التفكير، بخاصة أنّها مشاكلة لمقتل الزعيم السابق للتنظيم أبو بكر البغدادي، قبل ثلاثة أعوام، في ريف إدلب الشمالي الغربي كذلك، وكأنّها في "الصورة الكلية" شبيهة بها، إذا استثنينا تفصيلاتٍ أخرى، ولعلّ أكثر ما يدفعني، وربما كثيرون غيري، إلى التساؤل: إذا كان كلّ من البغدادي أو القرشي يرتديان أحزمة ناسفة، وقرّرا فعلاً الانتحار أو قتل أنفسهم، فلماذا يقرّرون "إعدام" أطفالهم ونسائهم معهم في هذه العمليات الانتحارية، بخاصة أنّ المؤكد أنّ أطفالاً ذهبوا في العمليتين، طبقاً للرواية الأميركية الرسمية.
المشكلة فعلاً أنّ الرواية الأميركية تكاد تكون الوحيدة. وبالتالي، يبدو الوصول إلى معرفة الأسباب الحقيقية لمقتل أطفال ونساء ومدنيين في مثل هذه الوقائع صعباً. صحيحٌ أنّ الإدارة الأميركية كشفت عن تفصيلات ما حدث، وذكرت مصادر إعلامية أنّهم حاولوا حماية النساء والأطفال الذين قتلوا في الغارة، قبل، كما تزعم الرواية الأميركية، أن يفجر القرشي نفسه في الطابق الثاني، إلاّ أنّ تفصيلات من شهود عيان تؤكّد، هذه المرّة، أنّهم سمعوا نداءات من القوات الأميركية لعائلة القرشي بأن تسلّم نفسها، فيما تؤكّد تفصيلات إعلامية نشرت بعد فترة من مقتل البغدادي أنّه حاول اصطحاب بعض أطفاله معه إلى النفق تحت الأرض، قبل أن تلحق به القوات الأميركية ليفجّر نفسه.
قد ينظر بعضهم إلى هذا التساؤل بوصفه أمراً ثانوياً في عملية قتل أحد أخطر الأشخاص في العالم (ضمن تصنيفات الإرهاب الأممية). لكن بالنسبة لنا، ليست الحادثة عابرة من زاوية فكرية ونفسية وثقافية، فأن تقرّر الانتحار وفقاً لفتاوى تؤمن بها أمر مشروع عند الجهاديين، أما أن تحكم على عائلتك وأطفال بالحكم نفسه، فهو ما يثير النقاش والاستغراب، بخاصة أنّه كانت هناك فرصة لكلا الرجلين (القرشي والبغدادي) لأن يرسلا عائلتيهما، ويقوما بالعملية الانتحارية. ولعلّ تقرير شبكة "سي أن أن" الجريء، بعنوان "الجانب القاتم في عملية قتل زعيم داعش"، يسلط الضوء على هذا الجانب الأخلاقي والإنساني، الذي أهمله تماماً، للأسف، الإعلام العربي، إذ طرح علامات الاستفهام نفسها عن مقتل الأطفال والمدنيين، وهي جرائم حاولت الرواية الأميركية تحميلها لكلا الزعيمين، من دون أن تقدّم إجابات كاملة مقنعة.
في متن الخبر أيضاً أنّ كلا الرجلين قتلا في مناطق شمال غرب إدلب تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، العدو الشرس لـ"داعش". ومن الصعوبة تخيل أن يكونا قد حظيا بتأمينٍ من الهيئة التي تصطاد وتسهل قتل أعضاء تنظيمي القاعدة و"داعش" في إدلب. وبالتالي، على الأغلب، كان بتسهيل من كتائب أخرى، مثل حراس الدين أو غيرهم ممن يوجدون في تلك المنطقة. لكنّ المهم أنّ لجوء كلا الزعيمين إلى مناطق تقع تحت نفوذ هيئة تحرير الشام، على ما بينهما من صراع عنيف وتكفير وحقد، يعني أنّ الغطاءات الأمنية للتنظيم قد كشفت بصورة كبيرة، بخاصة أنّ عديدين من قياداته وبعض مساعدي القرشي نفسه قتلوا أو اعتقلوا في الآونة الأخيرة.
هذا وذاك يقوداننا إلى أنّ التنظيم قد يبقى، بفعل الظروف الحالية، وبفعل التركة الكبيرة المترتبة على إنهاء دولته عسكرياً، مع بقاء آلاف الأتباع عالقين أو تحت هيمنة أيديولوجيته، لكن ما هو مؤكّد أنّ السحر الذي تمتع به في البداية والهالة الأسطورية له قد زالا، فلم يعد قادراً على تجنيد وحشد عشرات الآلاف من الخارج أو حتى الداخل، ولا امتلاك أزمة الحرب النفسية والسيطرة على أذهان المؤيدين وترهيب الخصوم، كما كانت الحال سابقاً، فـ"داعش" يتحرّك اليوم بوصفه تنظيماً عادياً، مثل التنظيمات الأخرى، وإن تمدّد في أفريقيا وسيطر على مساحات شاسعة أو عاد بقوة في أفغانستان، أو استفاد من الظروف المضطربة في العراق وسورية، فالطفرة التي صاحبته في البداية انتهت ولم تعد قائمة، ومقتل زعيمه الجديد فقط بعد أقل من ثلاثة أعوام من مقتل زعيمه السابق دليلٌ واضحٌ على ذلك.