مقامرة أحمد المرسي الشائقة

15 يونيو 2024
+ الخط -

تجتمع حزمةٌ من الأسباب للفرح برواية المصري أحمد المرسي (1992)، "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" (دار دوّن، القاهرة، 2023). أحدُها أن كاتبها شابٌّ أنجز روايةً لافتةً حقّاً، ببناء الشخصيات الأربع (الرئيسية) فيها، وبمذاق العتاقة الذي يأخذُك إليه وأنت تُغادر إلى زمن النص، في عشرينيات القرن الماضي، في أجواء من القاهرة مطبوعةٍ بالتنوّع. والرواية لافتةٌ أيضاً بإتقانها مسارها الكلاسيكي، الخطّي الألفبائي، وإن بدأت بلحظة موت أحد أبطالها في 1975 في جزيرة سعود (هل من جزيرةٍ في مصر بهذا الاسم؟ لا أعرف)، قبل أن ترتحل إلى زمنها الذي تُقيم صفحاتُها فيه. وسبب ثان للفرح أن هذا العمل يُطمئِنك بأن الرواية العربية بخير، مع التسليم بأن غثَّاً غزيراً يُنتج منها (وهذا من طبيعيّ الطبيعي)، بدلالة نجاح واحدٍ من كتّابها الجُدد، مجتهدٍ طموحٍ، قارئٍ عارفٍ، مجرّبٍ متمكّنٍ، ثلاثيني، في مقامرته الارتحال إلى مقطع زمني من تاريخ بلاده، ولا يقصدُ أن يكون باحثاً ولا مؤرّخاً، بل أراد ان يكون كاتب رواية، صانع حكاية، عدّته اللغة والخيال، لا الحقائق وحواشيها، فكان. ... يُحاول أن يقبض على أنفاسٍ مصريةٍ، مغويةٍ، في احتكاكها بالأجنبي، في البعد الاجتماعي المحض، بل النفسي على الأصحّ، فلا نصير أمام روايةٍ تاريخيةٍ، على ما قد يراها من يراها، وإنما أمام روايةٍ معنيّةٍ بالبعيد في الذات، بالعميق في فردانيّة الباحث عن تحقيق ذاته، أمنياتِه وأحلامه الصغرى. هذه موضوعة رواية أحمد المرسي، وليس الانشغال بما هو تاريخيٌّ لأنه تاريخي.

بديعٌ من صاحب الرواية أنه نقلنا إلى ميدان سباق الخيول والرهانات فيه، وهذه منطقةٌ نادرة في مشاغل المتن الروائي العربي، ليكون واحداً من أهم الفضاءات المركزية فيها، مكاناً وزماناً. والواقعيُّ البحت هنا أنك لمّا تشاهد المتسابقين على خيولهم التي ترمَح، والرغبة فيك أن تًتابع ما ترى، فإن أعصابك ستنشدّ إلى ما قدّامك، وتُستَنفر، وتتنازع فيك أنفاسٌ لاهثة، فتبدو في حال ترقّبِ خسرانٍ ما أو فوزٍ ما. والحادثُ أنك في قراءتك مقامرة أحمد المرسي تبقى منجذِباً إلى ما يتتابع من وقائع ومفاجآت وحوادث في النصّ في جريانه الشائق، بفعل اقتدار الكاتب في "مصنوعيّته"، أي في شحن لغته بما يورّطك، وجدانياً وشعورياً، في الذي يخوض فيه الفتى البدوي فوزان والضابط المسرّح سليم والعابث الساخر مرعي (يا للبراعة في بناء هذه الشخصية) والبريطانية الثرية الليدي ميتسي، وكلٌّ منهم مدفوعُ بأمنية يتطلّع إلى الوصول إليها، أو أقله برغبته في الخلاص من شقاء حاله، أو متاعب في روحه، أو اضطرابٍ يعطّل مزاجه. وفي الأثناء، تلتقي الهزائم الفردية مع الإحباطات، مع أفراح صغرى، مع مغامراتٍ ورهاناتٍ وخسارات.

يُتقن سرد أحمد المرسي صياغة حكايات الشخصيات الأربع (وغيرها)، وتقاطعاتِها، ليبني روايته التي تنهض أساساً على تشويق ظاهر، على إشباع الحكاية بتفاصيلها، على استيفاء كل شخصيةٍ حضورها التام، من ماضيها إلى حاضرها، لتكون المصائر، الموت أو الرحيل أو الانتحار الفاشل أو المضي في تصاريف الدنيا، خواتيمََ في الوُسع أن يلتمسَ منها واحدُنا ما أراد من خلاصات، تتعلّق مثلا بأن أقدارا مكتوبةً هي ما نمضي إليها، لا ما نشتهي أو ما لا نشتهي، خسرنا في رهاناتنا أو كسبنا. وفي المبتدأ والخبر، نحن بشرٌ، ثمة هشاشاتٌ فينا وفيرةٌ، مهما أدركْنا من قوّةٍ في ذواتنا، ومهما يسّرت لنا الحياة من أسباب النجاح، إذا فعلت.

القرية والبادية، وفيهما البيوت الفقيرة المتقشّفة، والأخرى لأصحاب الجاه هناك، من أهل التسلّط والتجبّر، مثل ذلك العمدة، الذي قضى في حادث قطارٍ في القاهرة التي أتاها لينغّص حياة ابن أخيه فيها، وقد صنع فيه ما صنع في القرية. القصور الباذخة، الأجواء الساحرة التي تعصى على مدارك الفتى فوزان، وهو فيها مرّة. الحانات الصغيرة، الشوارع العريضة، الأشجار الواقفة، المرض والعوز، والشعور الممض بالمهانة، والغبطة بغير فرحةٍ وفرحة... والرهان على الفرس شمعة، التي تخسر ثم تكسب ثم تخسر ثم تكسب... والكسب والخسران ثيمتان ظاهرتان، في عموم مجرى هذه الرواية التي تُغوي صنّاع الدراما والسينما لالتقاطها، ففيها الحكاية الشائقة، والمصائر الغامضة، والنفوس الحيْرى، وقبل هذا كله، فيها المتعة... والمتعةُ واحدةٌ من وظائف القص والحكي، وكلُّ روايةٍ لا تُمتع خائبة.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.