مفهوم "العالَم الروسي" أم سراب القطب الروسي؟

11 سبتمبر 2022
+ الخط -

وقَّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل أيام، مرسوماً وافق فيه على تبنّي عقيدة جديدة لسياسة بلاده الخارجية تتمحور حول مفهوم ما سمّي "العالَم الروسي". وإذ يركّز هذا المفهوم على الروس الذين يعيشون في الدول المجاورة لروسيا، لاتخاذ حمايتهم ذريعة للتدخل فيها من أجل توسيع نفوذ موسكو، فإنّ بوتين يريده واحداً من المرتكزات التي ينطلق منها نحو تكريس بلاده قطباً جديداً. لكن، هل يمكن لروسيا التوسّع خارج هذا العالم إذا قُيِّض لها تكريسه؟ وهل يمكنها تعزيز نفوذها وتنصيب نفسها قطباً اعتماداً على قوتها العسكرية وحدها، أو حتى قوتها العسكرية وثروتها الطاقية وهي تفتقر لاقتصادٍ عصري يساعدها في ذلك، كما في تجربة الصين، أو لاقتصاد وسلاح وطاقة، كما في التجربة الأميركية، علاوة على عدم انكفاء القوى الأخرى لفسح المجال الجيوسياسي لها؟

وورد مفهوم "العالم الروسي" والعقيدة الجديدة ضمن وثيقة سُميت وثيقة "السياسة الإنسانية"، وقد وُضعت، كما علق محللون، من أجل تبرير التدخل الروسي في دول الجوار. ومن أهم بنود الوثيقة، والذي يعد إشارة إلى بحث روسيا عن ذرائع للتدخل في الدول التي يوجد فيها مواطنون من أصول روسية، البند الذي ينصّ على "دعم مواطني روسيا في الخارج لنيل حقوقهم وحماية مصالحهم والحفاظ على هويتهم". وكان ملاحظاً مسارعة محللين سياسيين روس، وكذلك عرب يعيشون في الفضاء الروسي، إلى ادّعاء أنّ هنالك مواطنين من أصول روسية يعيشون في دول عدة، ويتعرّضون فيها لاضطهاد جسدي وسياسي وفكري، وأنّهم محرومون من الحقوق الطبيعية ومن حق السفر إلى روسيا أو التكلم والتعليم باللغة الروسية، خصوصاً أوكرانيا والدول أعضاء الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو؛ ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ومولدافيا، وأنّ على روسيا ألّا تستمر بنسيانهم وعدم الاهتمام بهم اجتماعياً وسياسياً وثقافياً. ثم توجّهوا إلى الحديث عن نسب كبيرة لروس يعيشون في كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وأرمينيا وأذربيجان، وعن ضرورة الالتفات إليهم لكي يصبحوا لوبياً يدافع عن مصالح روسيا في تلك البلدان.

الهدف هو إقامة "العالَم الروسي" الذي تحاول الحرب منذ ستة أشهر الوصول إليه

وإذ نصَّت الوثيقة أيضاً على بند "تعزيز العلاقات مع أقاليم أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا، ومع لوغانسك ودونيتسك في أوكرانيا"، طالب هؤلاء المحلّلون بأن تطبق روسيا تجربتها رعاية مواطنيها في هذه الأقاليم، على الدول الأخرى، متَّبعة جميع الوسائل، حتى التي اتبعتها في أوكرانيا، إذا لزم الأمر. فالوقائع، وتصريحات بعض السياسيين الروس، تشيران إلى أن الدافع والهدف الحقيقي من غزو أوكرانيا كان يتعدّى حماية الروس وحقهم في تقرير مصيرهم، أو ضرب خطط انضمام أوكرانيا لحلف الناتو. إذ قال رئيس الحكومة السابق، ديمتري ميدفيديف، نهاية الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، خلال حديثه لقناة تلفزيونية فرنسية، إن تخلي أوكرانيا عن تطلعاتها للانضمام إلى حلف الناتو لن يؤدّي إلى إيقاف الحرب. إنّ الهدف، فيما ظهر، هو إقامة هذا "العالَم الروسي" الذي تحاول الحرب منذ ستة أشهر الوصول إليه.

لن نخوض، في بنود أخرى، وردت في الوثيقة، ومنها زيادة التعاون مع الصين والهند والدول السلافية، وكذلك بند تقوية العلاقات مع الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لأنّه أُشبعَ نقاشاً قبل تبنّي هذه العقيدة. غير أنّ هنالك بند "حماية تقاليد العالم الروسي والنهوض بها"، وبند "تعزيز صورة روسيا دولة ديمقراطية تسعى إلى عالم متعدّد الأقطاب" اللذَيْن يستحقان الخوض فيهما لأنّها يركزان على التاريخ، وعلى الاستراتيجية المستقبلية للكرملين، ففي هذين البندين إعادة تركيز على ما بدأ يُجهَر به في روسيا، والاعتراف عبره بالدوافع الحقيقية التي أدّت إلى غزو أوكرانيا، وهو تحقيق مشروع "نوفاراسيا" الإمبراطوري، أو إعادة بناء الإمبراطورية الروسية التي نظَّر لها المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، وأشار إلى ضرورة إقامتها بسرعة ودفعة واحدة. كما أنه إعادة لكلام القادة الروس عن نهاية النظام الدولي أحادي القطب، وسعيهم إلى تنصيب بلادهم قطباً دولياً.

تحتاج روسيا إلى الكثير لكي تصل إلى مستوى القوة الاقتصادية للصين

أما الكلام عن "صورة روسيا دولة ديمقراطية"، فمن غير المعلوم إن كان المقصود بها الديمقراطية على الطريقة الروسية التي تريد تعزيزها وتسعى إلى تعميمها. وهل هي ديمقراطية تلك الدولة التي تتركز فيها ثروة البلاد في أيدي حفنة قليلة من المقرّبين لقادة البلاد؟ الدولة التي تصادَر فيها الحقوق والحريات، ويصدر فيها قانون يجرِّم أي اعتراضٍ على الحرب على أوكرانيا، وتحرق الغاز بدلاً من تصديره إلى دول أوروبا فتحرم المواطنين الأوروبيين من دفئه في الشتاء، وتهدّد القارّة والعالم بتفجير مفاعل زابوريجيا؟ فإن كانت هذه هي الديمقراطية التي تريد روسيا تعميمها، فمن المؤكّد أن البشرية لا تحتاج إلى ظهور قطب جديد يساهم في فرض ديمقراطية تنقضّ على حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وتزيد مآسي هذه البشرية أكثر مما فعلت الأقطاب العدوانية القائمة، والتي سبقت، خصوصاً القطب الأميركي، نصير الديكتاتوريات في دول العالم وحاميها.

لقد جرى التسويق لظهور هذا القطب خلال الأيام الأولى للحرب، والتي ظنّ القادة الروس أنّ مجرّد تمكّنهم من شنّها يكرّسهم قطباً، متناسين أنهم حتى لو انتصروا على أوكرانيا فلن يؤهلهم ذلك إلى تنصيب أنفسهم في ذلك الموقع، كونه أمراً مشروطاً إلى حد كبير بمدى انكفاء القوى الأخرى، علاوة على شرط توفّرهم على أسس اقتصادية تكرّسهم منافسين أقوياء. وإذا ما نظرنا إلى الواقع الذي استجدّ بعد شنّ روسيا حربها على أوكرانيا قبل ستة أشهر، نجد أنّ ما تحقق كان عكس ما كانت ترجو. إذ لم تعد روسيا قادرة على التقدّم على الأرض كما في الأشهر الأولى من الحرب، وأصبحت تعاني من ورطة عدم تحقيق انتصارٍ لافتٍ سوى إعلان لوغانسك ودونيتسك إقليمين مستقلين وتابعين لها. كما أنّ الحرب عزلتها داخل حدودها، وجلبت لها عقوباتٍ غربية ودولية وحصاراً اقتصادياً، ما جعلها عاجزة عن إقامة التجارة مع العالم الخارجي بعد عزلها عن نظام سويفت، إضافة إلى جعل ثرواتها الباطنية عبئاً عليها بسبب ما وصلت إليه هي والغرب، من وقف تصدير الغاز إلى الدول الأوروبية، وتخفيض كمية النفط المستورد منها.

الحرب التي سارت عكس ما أرادت موسكو، لم تجعلها تستخلص الدرس، بل إنّ بعض الانتصارات زادت في نفخ خيالاتها

وإذا ما قارنّا روسيا مع الولايات المتحدة والصين، نرى أنّها تحتاج إلى الكثير لكي تصل إلى مستوى القوة الاقتصادية للصين، والتي أهلتها لأن تصبح قطباً منافساً لأميركا على زعامة الاقتصاد العالمي. وإذ اعتمدت الصين القوة الناعمة للتغلغل في دول كثيرة، وسيطرت على اقتصادات دول أخرى، تبقى الولايات المتحدة القوة الأكبر بسبب سيطرتها الاقتصادية المعزّزة بسيطرة عسكرية ونفوذ وتحكّم بالثروات الباطنية لدولٍ كثيرة. وواقع الولايات المتحدة يجعل أمر تنحيتها عن موقع القطب الأول بحاجة إلى استراتيجياتٍ مختلفة، وإلى توحيد سياسات قوى كبرى، من قبيل الصين والهند وروسيا، وربما إيران، لتحقيق ذلك.

وفي النتيجة، كان من الأفضل لروسيا أن تغيِّر في بنية اقتصادها؛ من اقتصاد ريعي قائم على مبيعات النفط والغاز والسلاح، وتستغلّ الثروات التي وجدت طريقها إلى التجميد في البنوك الغربية في تنمية بلدها التنمية المستدامة، وفي تأسيس اقتصادٍ منتج ليصبح متنوع المصادر وقادراً على المنافسة على الساحة الدولية، كما هي حال الاقتصادات الكبرى. كذلك، كان من المفترض بها تبنّي "سياسات إنسانية" حقّة تناصر حقوق الدول والشعوب فتكسب ثقتها، لا أن تنتهك حق الشعوب في تقرير مصيرها وتجتاح بلداناً وتدمرها وتهجِّر شعبها لمجرّد الشك في نيات قادتها. غير أنّ الحرب التي سارت عكس ما أرادت موسكو، لم تجعلها تستخلص الدرس، بل إنّ بعض الانتصارات زادت في نفخ خيالاتها، وتضخّمت حتى جاء الخيال الكبير الذي يرى أنّ أي أرضٍ يقف عليها روسي هي بالضرورة جزء من "العالَم الروسي" الذي قد يُستنزف قبل بناء أولى دعاماته.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.