مفاعل زابوريجيا .. قنبلة بوتين النووية المؤجلة
عشية الغزو الروسي أوكرانيا، صُدم العالم أجمع من تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن وضع قوات بلاده النووية في "حالة تأهب خاصة". يومها، كانت المعارك تدور بسهولة على الجبهة الأوكرانية، وكان الجيش الروسي يتقدّم باضطرادٍ، لا يعرقل تقدّمه سوى مقاومة لا تُذكر. حينها لم يكن هنالك من داعٍ لكلام بوتين، سوى دبّ الرعب في قلوب الأوروبيين بسبب دعمهم الأوكرانيين والعقوبات التي فرضوها على بلاده. أما هذه الأيام، وبعد أن أدت المقاومة الأوكرانية إلى إبطاء الزحف الروسي، يتخوَّف صناع القرار في أوروبا من أن يستخدم بوتين سلاحاً نووياً تكتيكياً، كردٍّ انتقامي من الغرب. أما إذا امتنع عن ذلك، مخافة كسر المحرّمات التي وُضعت بعد ضرب أميركا هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية، تزداد الخشية من أن يكون مفاعل زابوريجيا سبيله للردع والانتقام.
لم تزرُ الرياح التي هبَّت في ذلك الربيع كلمات بوتين عن السلاح النووي، بل بقيت ناقوساً علقه الأوروبيون فوق رؤوسهم، ليجعلهم يفرملون نياتهم زيادة الدعم العسكري بأسلحة نوعية وهجومية للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لكيلا يسهم سلاحهم بهزيمة روسيا في أوكرانيا. وبالتالي، تكون ردة فعل بوتين جنونية، فيضربها بسلاح نووي قرب حدودهم، ويوقع الضرر غير المحسوب بهم وباقتصاداتهم التي تأثرت سريعاً بالحرب. وحين أطلق بوتين كلامه ذاك، مذكِّراً الجميع بأن بلاده "تمتلك أكبر عدد من الرؤوس النووية في العالم"، كان الغرب قد فرض أوسع عقوبات ممكنة على روسيا، من أجل إجبارها على وقف الحرب. غير أن الألم لم يكن قد تمكن من بوتين وجيشه، ولم يكن يتوقع أن تصل مدة الحرب إلى ستة أشهر، بعد أن كان مخططاً لها ألا تستغرق أكثر من أسابيع قليلة، يتمكن خلالها الجيش الروسي من احتلال أوكرانيا وخلع زيلينسكي وتنصيب رئيسٍ موالٍ لموسكو.
بعد استيلائه عليها، تكون زابوريجيا المحطة النووية الثانية التي يستولي عليها الجيش الروسي بعد محطة تشيرنوبيل
وحين استهجن الغرب والعالم أجمع كلام بوتين، جاء رده سريعاً، بداية مارس/ آذار الماضي، أي بعد أيامٍ من الغزو ومن إعلان حالة التأهب، بتوجيه ضربات من الدبابات الروسية باتجاه محطة زابوريجيا النووية الأوكرانية، الكبرى في أوروبا والواقعة جنوب وسط البلاد، محدثةً حرائق في المباني المجاورة لإحدى وحدات الطاقة فيها. وإذ اعتبر قادة أوروبا هذا العمل متهوراً، قال رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إنه "يمكن أن يهدد سلامة كل أوروبا". وزاد زيلينسكي على كلامه حين قال ما مفاده أنه إذا أحدث القصف الروسي على محطة زابوريجيا النووية انفجاراً فذلك سيكون نهاية أوروبا، لأنه سيجبر سكان القارة على إخلائها. وكان الحادث من الخطورة أن تبعه اجتماع لمجس الأمن التابع للأمم المتحدة، من أجل الوقوف على خطورة الوضع في المحطة، وإدانة عمليات القصف التي استهدفتها. ومع ذلك، لم تمنع كل تلك الإدانات الجيش الروسي من احتلال المحطة، في الأيام التالية، واتهام القوات الأوكرانية بمسؤوليتها عن سقوط قذائف قربها وعلى أبنيتها، أي اتخاذها قنبلة موقوتة لإخافة أوروبا، أو حتى للتهديد الضمني بتفجيرها وإلحاق الضرر بأوكرانيا والدول الأوروبية.
وبعد استيلائه عليها، تكون زابوريجيا هي المحطّة النووية الثانية التي يستولي عليها الجيش الروسي بعد محطة تشيرنوبيل، التي تعرضت لحادث في ثمانينيات القرن الماضي أوقفها عن العمل، وأدى لانبعاث إشعاعات نووية غطت أوروبا كلها، وجعلت المنطقة المحيطة بها غير قابلة لعيش الكائنات الحية. أما خطورة محطة زابوريجيا فتكمن في أنها من الضخامة لدرجة أن حادثاً ينتج عنه قطع الكهرباء عن المفاعلات، وبالتالي عدم تبريدها ببطء، سيحدث أضراراً بالغة فيها يؤدي بدوره إلى انبعاث نظائر مشعة شديدة الخطورة وسريعة الانتشار في الهواء وعبره. وهذه النظائر عادة ما تكون ذات ضرر مباشر على صحة الإنسان، وضرر طويل الأمد على المدن، ما يجعلها غير قابلة للسكن، وعلى الأراضي الزراعية، ما يجعلها غير صالحة للاستثمار لسنوات طويلة.
لا تستطيع القوات الروسية التقدم، ولا تستطيع التراجع، بعد أن قطعت هذا الشوط من المعارك، وخسرت آلاف الجنود
وعلى الرغم من كل تلك التحذيرات، ومن الاتفاقات الدولية التي تحظر استهداف محطات الطاقة النووية والسدود، لم يمتنع الجيش الروسي عن استهداف المحطة وفرض سيطرته عليها، مع استمرار الفنيين الأوكرانيين بإدارتها، وذلك لاتخاذها ميزة في أرض المعركة. ولم يكن ليحتفظ بها لو لم تصل عملياته الحربية إلى مرحلة العبث، إذ لا تستطيع القوات الروسية التقدم، ولا تستطيع التراجع، بعد أن قطعت هذا الشوط من المعارك، وخسرت آلاف الجنود وعدداً كبير من العتاد الحربي. لذلك إذا حملت الأيام المقبلة انتكاسة جدية للقوات الروسية، خصوصاً مع تحقيق الجيش الأوكراني انتصارات، ومنعه الجيش الروسي من التقدم، بعد أن حصل على راجمات الصواريخ الغربية وأسلحة الدفاع الجوي ومضادات الدروع، وإذا ما تطورت تلك الانتكاسة إلى انسحاب، فإنه قد يلجأ لاستخدام سلاح موجع للانتقام، وقد يكون هذا السلاح تفجير مفاعل زابوريجيا بدلاً من إطلاق القنبلة النووية التكتيكية التي جرى الحديث، بداية الحرب، عن إمكانية استخدامها لكسب المعركة، وبذلك يكون قد حقق الهدف الذي يمكن أن تحققه القنبلة.
ولكن، هل يدفع الانتقام وحده إلى هذه الفرضية وإلى ذلك الاحتمال المرعب؟ تتحدث الأنباء عن حرق بوتين الغاز الروسي الذي كان مخصصاً للتصدير إلى أوروبا، في معمل قرب حدود فنلندا، وكذلك توقف إمدادات خط نورد ستريم 1 لمدة ثلاثة أيام، بدلاً من تصديره إلى أوروبا، وهو ما يشير إلى أن الانتقام خيار وارد لدى بوتين. ويمكن لبوتين بذلك تجنب الاتهام باستخدام سلاح نووي، لأنه إذا استخدم السلاح النووي، عبر ضرب أي مدينة أوكرانية أو أوروبية، سيدفع ناتو إلى الرد بقنبلة مماثلة، قد تقود بدورها إلى اندلاع حرب نووية شاملة. وعلى الرغم من الرعب الذي يسببه هذا السيناريو، إلا أن خبراء يقولون إن على الغرب تحذير موسكو من خروج الأمر عن السيطرة في حال استخدمت قنبلة نووية، أو حتى افتعال حادث يفجر زابوريجيا، ما يدفع موسكو إلى التعقل وعدم التهديد لأنها ستكون مسؤولة عن تدهور الأوضاع أكثر مما هي عليه.
تعد جميع السيناريوهات عن مستقبل الحرب في أوكرانيا مرعبة؛ إذ بات الجميع في ورطة في ظل عدم القدرة على تحقيق الغلبة فيها. إلا أن الرعب الأكبر سيكون في تفجير الأوضاع أكثر، وهو ما يمكن أن يلجأ إليه الروس، الذين تبيّن الوقائع أنهم في حال من الجمود التكتيكي الذي سينعكس جموداً استراتيجياً، وهو جمود لن يكون تفجيرهم زابوريجياً منقذاً منه.