معضلة بوتين
على خلفية تصاعد الصدام بين الغرب وروسيا، وبعد دخول روسيا إلى أوكرانيا في احتلال عسكري يذكّر بأزمنة الاستعمار ومناخات بداية الحرب العالمية الثانية، تتحدث أصواتٌ كثيرة عن مشروعية التحرّكات الروسية أو أحقيتها لمواجهة تقدّم حلف الناتو ودول أوروبا باتجاه حدودها أو تهديد أمنها القومي، مضافة إليه تبريرات كثيرة تتعلّق بعدم احترام الغرب تعهداتٍ قطعها لموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بعدم ضمّ الدول المستقلة إلى منظومته الأمنية والعسكرية، بل ذهبت تحليلاتٌ أبعد من ذلك، حين رأت أن حلف الناتو كله لم يعُد له مبرّر، وبالتالي، فإن السلام العالمي يتطلّب حل هذا الحلف.
قد تكون الحجج أو الذرائع السابقة محقّة وقد تكون لا، وعلى افتراض صحتها، نكون أمام سؤال: هل حقا تُحل مسألة روسيا والرئيس بوتين لو احترم الغرب تعهداته وابتعد عن الحدود الروسية؟ وهل المسألة هنا أساسا أم في مكان آخر؟ تتعامى أغلب هذه التحليلات عن جوهر المشكلة، إن المشكلة القائمة اليوم في روسيا، وهي مشكلة عالمية بامتياز أيضا، تتجلى في المعاندة الروسية لروح العصر المتمثلة بالديمقراطية، وفي قيادتها إلى جانب الصين المعسكر المعاند للثورات والتغيير، وذلك تحت شعارات شتى، لا تذكّرنا إلا بشعارات الأنظمة العربية، التي شنقتنا باسم تحرير فلسطين والقومية العربية والأمن العربي وغيرها من مفردات يستمدّها فلاديمير بوتين اليوم من أرشيف الحرب الباردة، ومن مفردات المعجم السوفياتي العقيم، محاولا بث الروح فيها لشدّ وشحذ الهمم.
المشكلة القائمة اليوم في روسيا، وهي مشكلة عالمية بامتياز أيضا، تتجلى في المعاندة الروسية لروح العصر المتمثلة بالديمقراطية
مشكلة بوتين الأساسية لا تكمن في أنّ الغرب قد أخلّ بتعهداته تجاه موسكو، أو في عدم أخذه المصالح الروسية بالاعتبار، فهذا طالما كان جزءا أساسيا من عالم السياسة وصراعاتها، حيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها. وعليه، ومن هذا الباب، يحقّ لبوتين الدفاع عن مصالح روسيا بوجه خصومها، ولا شك في هذا. المشكلة الأساس ليست هنا، بل في كيفية خوضه تلك المعركة، ومن أي موقع.
يخوض بوتين معركته ضد الغرب الديمقراطي من موقعه دكتاتورا يسعى إلى تثبيت أركان حكمه، بل هو لا يتورّع عن الإعلان عن إفلاس الديمقراطية الليبرالية، ساعيا إلى فرض نظام بديل عنها، هو النظام الدكتاتوري الفردي الأمني الذي أقامه في بلاده، والذي لا يتورّع عن تغيير الدساتير والقوانين بما يتلاءم مع شخصه في البقاء إلى الأبد في سدّة الرئاسة، بما يعني أن بوتين لا يتورّع عن توظيف كل شيء في خدمة هذه المعركة التي لها الأولوية على أيّة معركة أخرى، وكأنّ كل الدروس المستفادة من هزيمة التوتاليتارية السوفياتية، وفي كل أنحاء العالم، ومن الأثمان التي نراها أمام أعيننا من هيمنة السلطويات العربية، قد ذهبت هباءً، حيث علمتنا التجارب أنّه لا يمكن لشعب مقموع مواجهة "المؤامرات المحاكة" ضد بلاده، وأن "الطغاة يجلبون الغزاة" وليس العكس أبدا، لأن الاستبداد لا يفعل إلا تجفيف منابع المقاومة في الداخل، وتحويل الشعوب إلى أدوات لمشروع الدكتاتور الذي تتعاظم حاجته يوما بعد يوم إلى معارك خارجية وبهلوانيات سياسية لتحفيز الشعور القومي وشحذ الهمم خلف قيادته. أليس هذا ما تقوم به بهلوانيات بوتين التي يطلّ بها علينا بين فينة وأخرى؟
قد ينتصر بوتين وقد يخسر، ولكن هذا كله وغيره لا يغيّر من حقيقة أن بوتين دكتاتورٌ يسعى إلى إقامة إمبراطورية دكتاتورية تحت اسم استعادة المجد السوفياتي أو القيصري
قد ينتصر بوتين في معركته في أوكرانيا وقد يخسر، وقد يهين رؤساء آخرين، كما أهان مرؤوسيه وفعل مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقبله الدكتاتور السوري بشار الأسد في أكثر من مناسبة، ولكن هذا كله وغيره لا يغيّر من حقيقة أن بوتين دكتاتورٌ يسعى إلى إقامة إمبراطورية دكتاتورية تحت اسم استعادة المجد السوفياتي أو القيصري، أو استعادة كرامة روسيا الدولية، ولو كان هذا على حساب الشعب الروسي والشعوب المجاورة، ففي مثل هذا العقل، لا تغدو الشعوب أكثر من بيادق لتحقيق الطموحات القومية التي تتخفّى في ظلها إرادة الدكتاتور للقبض على الحكم. هذه هي المسألة، وسواء انسحب بوتين من أوكرانيا لاحقا أم لا، وسواء تراجع الغرب أمام المطالب الروسية أم لا، فإن بوتين مهزومٌ في نهاية المطاف وعلى المدى الطويل، لأن التاريخ، علمنا، وبالتحديد التاريخ السوفياتي، أن من يصادر حرية شعبه لا ينتصر أبدا، ولو غزا العالم بأسره، أو ليس هذا ما فعله، حين اعتقل المعترضين على حربه على شعبٍ كان مائة عام، وربما أكثر، شعبا واحدا مع شعبه!
وإن كان من خطيئة ما ارتكبها الغرب في هذا السياق، فهي في تغليبه البعد الأمني على مسألة الديمقراطية التي تتراجع في كل أنحاء العالم اليوم، نتيجة خدلان السياسات الغربية وتواطئها (ولهذا حديث طويل)، وهي تحصد ثمن هذا في أوكرانيا اليوم.