معركة ما بعد تأجيل إسرائيل ضم أراض فلسطينية
تأجيل تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي قراره ضمّ أراضٍ واسعةٍ من الضفة الغربية تكتيكي، نتيجة الضجة العالمية، ولكن ضربة للمشروع الصهيوني لن تحدث، إلا إذا كانت هناك استراتيجية مواجهة فلسطينية بشكل أساسي، لاستثمار لحظة انكشاف عملية السرقة المنظمة لأرض فلسطين التاريخية، عالميا وإعلاميا.
لا نستطيع الاستخفاف بأهمية التراجع الإسرائيلي المؤقت، وإن كان هذا ضمن سياق المناورة السياسية، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نعرف أن جزءا من نجاح الضغوط على إسرائيل لتأجيل الخطوة جاء نتيجة استنتاج أميركي رسمي، من مراكز قوى مهمة في وزارة الخارجية والبيت الأبيض، أن تنفيذ خطة الضم يؤثر على عملية التطبيع المتسارعة بين بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيوني. والولايات المتحدة ترى أن التطبيع العربي الإسرائيلي لم يصل إلى مرحلةٍ تؤسس لقاعدة اجتماعية، اقتصادية، لحلف أمني إسرائيلي عربي تقوده أميركا في المنطقة، لا يشمل الأنظمة والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل تؤيده المنظومة الثقافية في العالم العربي، أو على الأقل أن يتم تهميش ثقافة المقاومة والتحرّر، من خلال إنشاء شبكة مصالح واسعة بين الفئات المتنفذة، بل وتربط مصير جميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية بهذه المصالح. وذلك فيما لا تتحدد أيدولوجية التطبيع، من منظور أميركي – إسرائيلي، بتعميق العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية، بل بتغيير الوعي تجاه القضية الفلسطينية والأمن القومي العربي، فتجزئة مفهوم هذا الأمن ضرورية، وقد بدأنا نرى مفعولها بالدعوات إلى فك ارتباط المصالح العربية، فردية كانت أو جمعية، رسمية أو شعبية، بالقضية الفلسطينية، واعتبار ما يحدُث صراعا قديما لا معنى له، ويعيق التطوّر والحداثة وازدهار الشعوب.
حل الدولتين غطاء لإنشاء كينونة فلسطينية ممزّقة، تحت السيطرة الإسرائيلية، تصبح فيها هذه السيطرة مشروعة
وما تريده أميركا أيضا هو أن يصل التغيير المنشود إلى أن تصدر تصريحات رسمية عربية تعترف بالقدس عاصمةً موحدةً لإسرائيل، وبضم باقي الضفة الغربية، باعتبار ذلك تفكيرا واقعيا بعيدا عن الأوهام والأحلام، أي قبول الواقعية التي فرضتها الترسانة العسكرية الإسرائيلية، بعيدا عن مفاهيم الأمن القومي العربي والعدالة والقانون الدولي. والمقصد من هذا إنشاء جيل من حكام ومؤثرين، يخضع لسلطان القوة ويمجّدها، وكأن الفلسطيني بمقاومته أضحى عبئا على عملية تقدم موهومة، يكون دور "المثقفين" فيها تبرير جرائم إسرائيل وأميركا وتسويقها، ليس في فلسطين فحسب، بل في العراق وكل بقعة في الأرض.
يخدم التطبيع في الرؤية الاستراتيجية الأميركية الحفاظ على مصالحها، وذلك يتطلب دمج إسرائيل في خريطة سياسية جديدة، لا مكان لعالم عربي فيها، أو دورا لدول الإقليم، خارج مدار الهيمنة الإسرائيلية، أي إنهاء صورة إسرائيل عدوا وبشكل نهائي، ولكن ردّة الفعل لعملية الضم نبهت أميركا وساسة إسرائيليين إلى أن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أحيا صعودا في المشاعر القومية العربية تأييدا للقضة الفلسطينية، كانوا يعتقدون أنها شبه مختفية.
ما تريده أميركا أن يصل التغيير المنشود إلى أن تصدر تصريحات رسمية عربية تعترف بالقدس عاصمةً موحدةً لإسرائيل، وبضم باقي الضفة الغربية
وعلى الرغم من ارتباط كل منهما، بشكل مختلف، بمعاهدات واتفاقيات تبعية لأميركا وإسرائيل، إلا أن الرفض الرسمي الذي أعلنته عمّان والقيادة الفلسطينية لقرار إسرائيل ضم أراض لها في الضفة الغربية ساهم في منع أو كبح جماح انزلاق عربي رسمي وعلني بالخطوة، كما أثار مخاوف أميركية بتعطيل عملية التطبيع، فالمشاريع الاقتصادية الكبيرة التي تؤسس لترسيخ التبعية العربية لإسرائيل أهم من أي مغامرة غير محسوبة لنتنياهو. وقد أخذت واشنطن بالاعتبار رفض حلفائها، وخصوصا ملك الأردن، عبدالله الثاني، خطة الضم، وهذا بذاته ينسف مقولات رسمية وغير رسمية أن لا بديل سوى الرضوخ لأميركا. وفي الوقت نفسه، لم تتغير المعادلة، ولم تتغير الأهداف الأميركية والإسرائيلية، فالتحذير من تقويض حل الدولتين غير كافٍ لتكوين موقف سياسي من دون الارتكاز على رؤيةٍ واضحةٍ لتعارض المصالح الوطنية الأردنية مع المخططات الأميركية الإسرائيلية، فالرفض الأردني تقاطع، في هذه المرة، مع مخاوف أميركية وصهيونية من أن الاستعجال بالضم قبل تعميق التطبيع شرط لجر الفلسطينيين إلى الطاولة للتوقيع على استسلامهم، يضر مصالح إسرائيل نفسها.
الرفض الأوروبي الدولي يعتمد على ثبات الموقف الفلسطيني
ولكن أميركا لن توقف الدفع بعجلة التطبيع، وإسرائيل لن توقف خطة الضم، وقد تلجأ إليه بالتدريج، وهذا هو السيناريو الأرجح، فعلاج الصدمة للفلسطينيين لتركعيهم لم ينجح، وبل ألّب الاتحاد الأوروبي ضد القرار، حتى أن بريطانيا رفضته بشكلٍ غير قابل للتأويل. ولكن يجب أن نتذكّر أن الرفض الأوروبي الدولي يعتمد على ثبات الموقف الفلسطيني أولا، والرفض الأردني، فعدم مشروعية الضم، ينسفه أي قبول فلسطيني، أو تردّد أردني. ولكن تسارع عملية التطبيع قد يكون أخطر سلاح لإضعاف الموقف الفلسطيني ومحاصرته. ولذلك على السلطة الفلسطينية تنفيذ الموقف الذي تعلنه، حتى لا يكون الأمر مجرد مناورات سياسية تخدم، من حيث التأثير، مشروع التطبيع. والأردن لا يمكنه الاستثمار بالتطبيع وحماية المصالح الوطنية ومصالح النظام في آن.
لا يحتمل الوضع الفلسطيني المناورات. وبات من الضرورة ظهور قيادة جديدة، ولكن حتى تكون هناك قيادة جديدة يجب الاتفاق على استراتيجية تحرّر. وتشكيل قيادة لا يأتي بقرار أو اجتماع، بل بالاندماج في عمليةٍ نضاليةٍ تفرز قياداتٍ مستعدّةٍ لتضحياتٍ كبيرة، فالمسألة لا تتعلق فقط بالكفاءات، أو البراعة في مخاطبة العالم والدفاع عن الحقوق الفلسطينية في المنابر الإعلامية، لأن الأساس هو النضال على الأرض، منه يستمد الجميع قوتهم في تحدّي الرواية الصهيونية والسياسات الأميركية.
من دون مقاومة التطبيع ووقفه، لا معنى لأي موقف أو تحرّك.
يجب أن يؤسّس ما رأيناه من ردود دولية، وتضامن من مثقفين ونشطاء، لحملةٍ عالميةٍ لا تقتصر على معارضة الضم، بل فضح المشروع الصهيوني. وقد كانت هناك أيضا حملة صهيونية وأميركية، حتى بين الأصوات المعارضة لتوقيت تنفيذ قرار الضم، لوأد مصطلحات القانون الدولي ومقرّرات الأمم المتحدة، لتقليص القضية الفلسطينية إلى مسألة أراض متنازع عليها، أي إلغاء واقع الاحتلال والحقوق الوطنية من السياقين، القانوني والتاريخي. وسوف تصعّد القوى الأميركية والمؤيدة لإسرائيل هذا البعد الهام من الصراع، فتغيير اللغة جزءٌ من تمرير الضم أو سرقة الأرض المعلنة، فلا يمكن الاستخفاف بهذا البعد الاستراتيجي التأثير، خصوصا أنه بدأ يتسرّب إلى الخطاب الإعلامي العربي، سيما الرسمي، فمن الخطأ إدانة المخطط الإسرائيلي لأنه تقويض لعملية سلامٍ طال استخدامها غطاءً لعملية نهبٍ منظّمةٍ للأراضي الفلسطينية، بل لأنها تكملة لمشروع استيطاني إحلالي وتطهير عرقي للشعب الفلسطيني.
يحب تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فحل الدولتين ليس أكثر من غطاءٍ لإنشاء كينونة فلسطينية ممزّقة، تحت السيطرة الإسرائيلية، تصبح فيها هذه السيطرة مشروعة، فلا مجال لأي تمويه أو أي تجميل. والقرار الإسرائيلي، تأجيل تنفيذ خطة ضم أراض واسعة في الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، سوف يجعل نتنياهو وكل المؤسسة الصهيونية أكثر شراسة، إذ يبدأ تسريع التطبيع بتغيير المصطلحات. وليست مصادفةً أن يكتب سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتبية، أن إسرائيل "فرصة وليست عدوا"، مبشّرا بالتطبيع الثقافي الإسرائيلي الإماراتي، وأن تتسع المظاهر العلنية لهذا التطبيع، ولكنه دعا، في حينه، إلى تأجيل الضم، لأنه يُضعف التطبيع، فالمعركة الأهم، أميركيا وإسرائيليا، هي التطويع من خلال التطبيع، ومن دون منع هذه المسألة، ومن دون مقاومة التطبيع ووقفه، لا معنى لأي موقف أو تحرّك.