معركة تستدعي ذكريات حروب سابقة
لعلّ من سوء طالع الأجيال العربية التي شهدت أو عاصرت واختبرت بعضاً من حلقات تلك السلسلة الطويلة من الحروب العربية الإسرائيلية، المتعاقبة على مدى العقود الطويلة الماضية، أن الذاكرة الجمعية لها لا تزال تختزن في تلافيفها العميقة جملة من المشاهد والوقائع أو الروايات أو التجارب التي تفيض بالأسى والألم والإحباط، ليس فقط جرّاء ما انطوت عليه سياقات تلك الحروب من "انتصارات" مدوّية عبر الأثير، وإنما أيضاً بفعل ما انتهت إليه معظمها من نتائج مؤسفة على أرض الواقع، لا تزال شواهدها ماثلة ملء الأسماع والأبصار.
استثناءات قليلة خرجت نتائجها مختلفة بعض الشيء عن تلك المآلات المحزنة التي انتهت إليها تلك الحروب، الصغيرة منها والكبيرة، الأمر الذي يبعث فينا قدراً ضئيلاً من الرجاء في أن تنتهي الحرب التي جرت ضد قطاع غزة، وما تجلّى خلالها من بطولات نادرة، إلى نتائج، قريبة من بواكير معركة سيف القدس (لا في خواتيمها) قبل نحو ثلاثة أعوام، تلك المعركة المثيرة للاعتزاز، نظراً إلى ما أنتجته من وحدة وطنية شملت سائر التجمّعات الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وفي الشتات.
وإذ تحضُر ذكريات الحروب السابقة هكذا دفعة واحدة، والمرء يتابع وقائع العدوان الوحشي الواسع ضد القطاع الصامد المرابط، ولا سيما ضد قادة حركة الجهاد الإسلامي الباسلة ومقاتليها، تحضر الى ذهنه خبراتُه الشخصية المثخنة بالألم إزاء محدودية، إن لم نقل غياب مظاهر التعاطف والتضامن، التي كانت تسود الشوارع العربية من الماء إلى الماء، وتُشعلها بالغضب والسخط والاستنكار، حيال عجز النظام العربي عن التدخّل، وأحياناً إزاء صمته وافتقاره الإرادة الكافية لفعل أي شيء ذي قيمة (عدا الوساطة أخيرا لوقف إطلاق النار يا أخا العرب) يمكن له أن يتماثل مع مشاعر الملايين المفجوعة بكل هذا الخدر السياسي اللذيذ الساري في أوصال هذا النظام المسترخي تحت ظلال شجرة عقمه وبؤسه ومصالح زعمائه المتباينة في أولوياتها وتحالفاتها واعتباراتها الخاصة.
وقد تكون الذاكرة طافحةً بعد بذكريات الحرب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1982على نحوٍ خاص، تلك الحرب التي استمرّت نحو ثلاثة أشهر، حوصرت في غضونها لأول مرّة عاصمة عربية، وتجلت خلالها مظاهر صمود وقتال ومقاومة هائلة بمعايير ذلك الوقت، من دون أن تؤدّي مظاهرات الغضب والاحتجاج المدوّية ضد الصمت الرسمي العربي إلى أن تحرّك ساكناً لدى أقرب العواصم مخاطبة بتلك الحرب التي أعقبت أشد وأخطر خروج عربي من معادلة الصراع التاريخي، وهو الخروج الذي لا تزال مضاعفاته عميقة الأثر، قائمة منذ ذلك اليوم وحتى أجل بعيد، ونعني به ذلك الزلزال الذي أعقب معاهدة كامب ديفيد عام 1978.
أكثر من ذلك، مظاهرات التأييد والتضامن المتعاظمة، وما صاحبها من مشاهد احتجاجية غاضبة ضد الصمت والتخاذل الرسمي العربي إبّان الانتفاضة الثانية عام 2000، تلك التي دامت عدة سنوات، وذوت من دون أي تأبينٍ يليق بها، لم تؤدّ، هي الأخرى، إلى ما هو أكثر من تفريغ شحنات الغضب المكبوتة لدى النخب العربية، فيما كانت جماهير الانتفاضة المحاصرة تكتب بدمها في مطلع كل نهار سطراً جديداً من كتاب الصمود الأسطوري ضد قوة احتلال غاشمة، من غير أن يؤدّي ذلك كله سوى إلى أدنى حدود الاستجابة لمشاعر الملايين الهادرة في الميادين والشوارع، وذلك كله على وقع هتاف حناجر المنتفضين والمتعاطفين، المنادين بأعلى أصواتهم: "وين الملايين ... الشعب العربي وين؟".
وليس كثيراً القول، وقد تسمّرنا خمسة أيام أمام الشاشات لمتابعة الصواريخ المنطلقة من غزّة، والغارات البربرية على سكّانها المحاصرين، أن نقول، بملء الفم، إن الاحتلال الذي افتعل هذه المعركة لترميم صورة الردع في المقام الأول، وتعزيز وضع الائتلاف الحكومي المتزعزع لأسبابٍ مختلفة، قد فشل، فيما أثبتت حركة الجهاد الإسلامي أنها كانت على مستوى التحدّي، رغم كل ما لحق بقيادتها العسكرية من خسائر ثقيلة.
وهكذا، فإننا، ونحن نقدّر هذه التضحيات التي قدّمتها الحركة من دون أن تلين لها قناة، ويحدونا الفخر والاعتزاز بمشاهد الصمود، بما في ذلك إطلاق الرصاصة الأخيرة، وفقاً لتقاليد القتال الفلسطينية، الآتية من قلب قطاع غزة المحاصر، بل ومن بين أزقّة مخيماته المسكونة بالبؤس وبالبأس، فإننا نخشى حقّاً ألا يختلف حصاد هذه المعركة عن تلك النهايات الرمادية، بلا نتائج سياسية، على نحو ما أفضت إليه المواجهات السابقة في غزّة وحول غزّة.