معركة التحقيق في الجريمة
لم يحدّد مجلس الأمن الجهة المنوط بها إنجاز "تحقيق فوري وشامل وشفّاف وحيادي" في جريمة قتل شيرين أبو عاقلة، في بيانه الذي شدّد، أول من أمس، على "ضرورة محاسبة منفّذ عملية القتل أو منفّذيها". وبدا أن المجلس تفادى التأشير إلى هيئة تحقيقٍ دوليةٍ (أممية) في الواقعة، ينتهي عملُها إلى محاكمةٍ دوليةٍ لمرتكبي الجريمة. وقد عكس هذا ما كانت عليه بيانات الشجب التي صدرت عن دولٍ بلا عدد ندّدت بالحادثة المروّعة، وغالبا بلغةٍ عالية الغضب، نأت، في الوقت نفسه، عن المطالبة بأن تحدّد جهةُ قضاءٍ دوليةٍ القصاصَ من القاتل (ومسؤوليه)، على ما فعل الاتحاد الأوروبي الذي طالب بتحقيقٍ "معمّقٍ ومستقلٍّ في أسرع وقت"، وكذا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، الذي طالب المتحدّث باسمه بتحقيقٍ "عاجل". وبدا كأن ثمّة إجماعا على الحذر من الإتيان على أن يكون التحقيق المشدّد عليه، والمقرون بالعبارات الساخطة، ذا صفةٍ دوليةٍ، على غير تبنّي المجموعة العربية في الأمم المتحدة إعلانا طالب بتحقيقٍ "دولي مستقل"، وعلى غير ما جهرت به هيئاتٌ ومنظماتٌ مدنيةٌ كبرى، معنيةٌ بحماية الصحافيين وحقوق الإنسان والقانون الإنساني، من قبيل "هيومان رايتس ووتش" التي قالت بضرورة تحقيق المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المرتكبة في فلسطين، بالنظر إلى أن "وعود إسرائيل بالتحقيق في مقتل أبو عاقلة فارغة". وكذلك فعلت "مراسلون بلا حدود" التي شدّدت على "تحقيقٍ دوليٍّ مستقلٍّ في أسرع وقت".
ولئن يتبدّى، من غير عناء، أن الذهاب إلى تحقيقٍ دوليٍّ في جريمة الأربعاء الماضي لن يقيّض له بلوغ مراده، فإن هذا لا يجوزُ أن يُثني المطالبين به عن الإلحاح عليه بلا توقف، مقرونا بالدواعي التي تقتضيه، وفي مقدّمتها أرشيف إسرائيل المثقل بالمراوغات التي تحترفها، كما يدلّ عليها سجلٌّ مشهود. ولمّا كان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أعلن عن توجّهٍ فوريٍّ إلى "الجنائية الدولية"، ولمّا أوضح رئيس الوزراء، محمد اشتية، لاحقا، إن نتائج التحقيق الذي تمضي فيه السلطةُ الفلسطينيةُ حاليا هي ما سترفعها إلى هذه المحكمة العتيدة، مرفقةً بملفٍ موثّق، فإن السلطة مطالبةٌ، في الوقت نفسه، بأن تتهيأ لمواجهة حملةٍ دعائيةٍ من دولة الاحتلال، من المرجّح أن تسندَها دوائرُ أميركيةٌ رسميةٌ، تبخّس من صدقية نتائج التحقيق الفلسطيني المرتقبة، والتي لا يضرب واحدُنا الودع لو حدَس إنها ستوجِّه اتهاما إلى الجيش الإسرائيلي، وستؤشّر إلى مسؤولية قياداته والمستوى السياسي في حكومة الدولة العبرية عن الجريمة. وهنا، نصير أمام معركةٍ من نوعٍ خاص، من عناوينها الزعم إن الجانب الفلسطيني أجاز لنفسه الخلوص إلى النتائج التي يُريد، وكان عليه أن يستجيب لمطلب الجانب الإسرائيلي المشاركة في التحقيق الذي يؤدّيه، بل أن تسلّمه جهة الاختصاص الفلسطينية المقذوفَ الذي أزهق روح الصحافية. وعندما تستدرك الولايات المتحدة مطالَبتها بتحقيقٍ "فوري ودقيق" في الساعات الأولى عقب الحادثة، بأن تُبدي، على لسان المتحدّث باسم الخارجية، "الثقة" بما سمّتها "مقدرة إسرائيل على القيام وحدَها بالإجراءات اللازمة لاستبيان الحقيقة"، فذلك مما يُنبئ بأن الإدارة الأميركية ستعمل على توفير مظلّةِ حمايةٍ لإسرائيل، دولة وجيشا، من تحمّل المسؤولية عن الجريمة. وقد ألحّ المتحدّث نفسه على عدم الحاجة إلى تحقيقاتٍ دوليةٍ أو مشاركة أي طرفٍ آخر، "ولو أن الجانب الفلسطيني يقوم بتحقيقاته الخاصة"، بحسب ما قال. وليس من دلالةٍ هنا غير تهيؤ واشنطن لتطويق أي إدانةٍ لإسرائيل أو لجيشها الذي قد يعمَد إلى تسمية جنديٍّ منه "مذنبا" أو "مخطئا" لم يقصد قتل شيرين، على ما تنطق إيحاءاتٌ تنطوي عليها تسريباتٌ يتوالى نشرُها في الصحافة العبرية. وعندها سيبدو أن الجنسية الأميركية للضحية لم ينبن عليها اعتبارٌ خاص، وقد بدا متحدّث الخارجية صريحا في هذا لمّا أوضح أن الأمر عند "وفاة" (!) مواطن أميركي في الخارج يقتصر على الدعم القنصلي.
ولأن معركة التحقيق والادّعاء والاتهام والقصاص ذاتُ حساسية بالغة، وتتطلّب من الجانب الفلسطيني إدارةً لها على كفاءةٍ عالية، يحسُن فيها الاستعانة بخبراتٍ قديرة، توازي عملها الاحترافي بخطابٍ قانونيٍّ يذكّر بالبراءات والعقوبات المخفّفة التي خلُصت إليها تحقيقاتٌ إسرائيليةٌ، صورية، في قتل المصوّر البريطاني جيمس ميللر (2003)، والناشط البريطاني توم هورندال (2003) والموظف الأممي إيان هوك (2003) والمصوّر الإيطالي رفائيل تشيللو (2002)، وغيرهم من أجانب تقصّدهم جنود إسرائيليون بالقتل ...
المعركة صعبةٌ، وتحتاج جهدا فلسطينيا خاصّا في التنسيق والتنظيم والفاعلية والمهنية.