معالم أموية في أريحا
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
مدرسة هشام بن عبد الملك، سينما هشام، مطعم أمية، ... هذه الأسماء الأموية وغيرها وردت في كتاب القاص والروائي محمود الريماوي "الحياة مشياً تحت سماء أريحا" (فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان، 2023). وإلى الطابع الأموي الذي توحي به بعض المسميات في مدينة أريحا، ثمّة الطابع المسيحي أيضا، مثل مدرسة ودير طراسنطا، وعائلات مسيحية كثيرة كانت تعيش في وئام قبل نكسة 5 حزيران (1967)، وهي الفترة التي اختار الكاتب أن ينهي عندها لوحات ذكرياته. ثمّة أيضا بورتريهات لشخصيات هامشية كانت تعيش في طفولة الكاتب في أريحا، مثل الطبيبة زينب المحبّ، صاحبة العيادة في بداية الخمسينيات في أريحا التي سبق أن عملت في قصر الملك فاروق، وأساتذة مدرسته الابتدائية، وكان منهم محي الدين ابن شقيقة أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري، وباعة الصحف، وشخص خنثى اسمه جروان يلقى احتراما كاملا من المجتمع، وشخصية الداية أم العبد ذات الأصول العراقية التي كانت تقود سيارة فولفو، ويحاول الأطفال أن يسبقوها بركضهم. وشخصيتا زريفة وابنتها مقبولة، وكانتا نازحتين إلى مخيم عقبة جبر في أريحا، ونزحت من قبل من بلدة قرب يافا اسمها بيت دجن، ثم اقتلعتها الحرب فنُفيت مرّة أخرى إلى مخيّم الحسين في عمّان (عاشت مشرّدة من مخيم إلى آخر).
وسم الريماوي كتابه بأنه "سيرة ذاتية موضوعية"، لأنه قصد أن يقدّم سرداً موضوعياً للمكان لا يكتفي بمشاعر الحنين وأحاسيسه، إنما اجتهد لترصيع مادّته بمعلوماتٍ دقيقة طوبوغرافية وتاريخية حول مدينة أريحا العريقة، انطلاقا من نشأتها ووصولا إلى تاريخها الاجتماعي وتطوّره وطبيعة التعايش عند سكانها واحتفالاتهم المختلفة وأسواقهم ودقائق حياتهم.
وقد ذيل الغلاف بكلمة للباحث والشاعر المغربي محمد أحمد بنّيس، مشيرا فيها إلى أهمية الكتاب وجدّته في مضمار السير الذاتية العربية، ما يشير إلى ذاكرة جماعية فلسطينية أردنية أتقن الكاتب في استحضارها بصفاء ومشهدية لمّاحة، من أجمل ما مثلها المقطع التالي المتعلق بزيارة الملكين الحسين ومحمد الخامس "طلب منا ومن عموم التلاميذ الاستعداد للخروج للاصطفاف في الشارع الرئيسي القريب، وذلك تحية للملك الحسين ولضيفه الملك محمد الخامس، فيما كانت مئذنة الجامع القريب تصدح بالتهليل والترحيب وتلاوة الأدعية للمجاهد الكبير. كان الضيف بعد أن وصل إلى العاصمة عمّان قد رغب في زيارة القدس التي طالما قصدها الحجاج المغاربة للتقديس، ولمّا كانت أريحا تقع على الطريق بين عمّان والقدس، فلا بد أن يمرّ الموكب الملكي بها. وقد اصطففنا هانئين سعداء بالخروج من المدرسة، وبإمكانية رؤية الملكين من قرب.. تقدّمت السيارة الطويلة السوداء المكشوفة، وقد ظهر في وسطها الملك حسين بابتسامته العريضة المشرقة، وبجواره بدا وجه ملك المغرب الأقصى طافحا بالوداعة والسماحة وكأنه جدٌّ لنا نحن الأولاد وقد جاء ليتفقد أحفاده".
مواقف ومشاهدات كثيرة تسردها هذه السيرة الجميلة لحياة مدينة ثريّة ومتنوّعة ومليئة بصور الكدح والتعايش بين مختلف فئات المجتمع وطباعه، قبل هزيمة 5 حزيران 1967 حين اجتاح الاحتلال الصهيوني المدينة وشرّد أهلها، وكانت ضمنهم عائلة الكاتب التي اختارت العاصمة الأردنية عمّان مستقرا.
كثيراً ما شجّع كاتب هذه السطور محمود الريماوي على كتابة سيرته، وأتذكّر في رحلتنا سوياً إلى سريلانكا أنني طلبت منه تهيئة محاورة صحافية معه، ركزت فيها أسئلتي على طفولته، فانبثقت صور مهمّة، خصوصا في أثناء حديثه عن دكّانة جدّه التي كان يرتادها وهو طفل. نشر الحوار في مجلة نزوى العمانية. وقد أشار الريماوي مشكوراً في مقدّمة الكتاب إلى هذا الحوار، حيث تشجّع بعدها على إكمال الكتاب الذي جاء في أكثر من مئتي صفحة، وهي لوحات جادت بها ذاكرته الصقيلة مؤرّخة تفاصيل بعيدة، كما أنها تشكّل خلاصة ثقافة ولغة كاتبٍ من عيار خاص، لديه لغته المتينة، فمن يقرأ مقالات الريماوي وقصصه يقع على هذه السمة لديه. وهنا يسرّني أن أذكر مجموعتيه القصصيتين "رجوع الطائر" و"القطار" المتميّزتيْن بفهم عال لفنيات القصة القصيرة. مثلا قصة "القطار" التي يمكن عدّها من أمّهات القصة القصيرة العربية لما تشتمل عليه من مغزى وجودي عميق، تم تقديمه بغموض شفّاف.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية