معادلات صعبة وانتظارات عبثية في لبنان
يسود الانتظار العبثي والقلق في لبنان من شبح الحرب الواسعة، كما في جميع أرجاء الشرق الأوسط، وينتشر الخوف أكثر من أي وقت مضى من أحداثٍ تكسر قواعد الاشتباك المعلنة، ويشعر الحميع بتوتر شديد إزاء مزيدٍ من التصعيد بين إسرائيل وحزب الله اللذيْن لا مصلحة لهما في خوض معركة أوسع نطاقاً، لكنهما يستعدّان لها. لقد استغرق الأمر وقتاً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، والقائد العسكري البارز في حزب الله، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية، وهي علامة ربما على أنهما سيتصرّفان بحذر، إذ إنّ أي هجوم كبير على إسرائيل يجذب أميركا أكثر، وهي أقدمت في أسبوع على الإفراج عن أسلحة هجومية للسعودية، وتعزيز تحالف إقليمي عربي ودولي كبير ضد طهران، ووافقت الخارجية على بيع الدولة العبرية طائرات إف -15 وصواريخ ودبّابات بقيمة 20 مليار دولار، في وقت حشدت قوات عسكرية بحرية كبيرة في المنطقة، للدفاع عن حليفتها (وزير الدفاع لويد أوستن).
التزمت إيران وحزب الله بقواعد الاشتباك المعمول بها، ما أشاع انطباعاً أن الجبهة اللبنانية لن تشتعل كليّاً، وأن هذا الصراع لا يزال أقل تدميراً.هذه المرة ينبغي لإيران أن تقرر، ما إذا كان بوسعها المخاطرة بإشعال حريق كبير في لحظة سياسية أميركية ضائعة بين رئيس أميركي، "قديم وبطة عرجاء"، جو بايدن، ورئيس جديد وإدارة جديدة. وكان أمين عام حزب الله حسن نصرالله قد صرّح "أن الحزب سيرد على اغتيال قائده العسكري في الوقت المناسب" وأن "الانتظار جزء من العقوبة".
وفي الأثناء، يخشى أن يدخل لبنان أكثر مما كان متوقعاً في حرب المشاغلة والمساندة في معادلات وتصوّرات مختلفة عن مرحلة (1993-1996)، لا تحمي بيروت ولا اللبنايين، فالضاحية الجنوبية، مثالاً، أكثر حذراً من كل شيء، يجلو عنها سكانها ليلاً. ولكن الناس تستمرّ في العيش نهاراً، وثمّة خوف من أن تطول حرب الاستنزاف، وتؤدّي إلى اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل بسبب تفوّقها التكنولوجي والجوي.
يُخشى أن يدخل لبنان أكثر مما كان متوقعاً في حرب المشاغلة والمساندة في معادلات وتصوّرات مختلفة عن مرحلة (1993-1996)، لا تحمي بيروت ولا اللبنايين
ذهب رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بعيداً في الكونغرس الأميركي، مستعيداً الخطر الوجودي الذي عاشته إسرائيل في الهجوم متعدّد الجبهات في 1973، باعتبار ذلك جزءاً من عامل الوقت، الذي يأمل أن يتوّج الخريف المقبل بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. في المقابل، يسعى الرئيس جو بايدن إلى تعويض خروجه من السباق الرئاسي من خلال نجاح جهوده الدبلوماسية لوقف حرب غزّة وترتيب شرق أوسط جديد وفق الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية، لكنها جهود تقلصت إلى حدود فرضيات من دون تأكيد، لتحقيق هدنة أيام في المنطقة تخفّف من حدّة الصراع، ويمكن أن تمنع إيران ولبنان من فتح جبهة جديدة.
ليست الأزمة في الرد، وإنما في شكل الرد الإسرائيلي على إيران والحزب في وقت غادرت الغالبية من رعايا السفارات الأجنبية بيروت، وألغت شركات الطيران رحلاتها إلغاءً متسلسلاً من بيروت وإليها، ويجري تنظيم عمليات إجلاء بحرية ضخمة لعشرات الآلاف من الرعايا العرب والغربييين.
شاهد اللبنانيون إسرائيل وهي تدمّر جزءاً كبيراً من قطاع غزّة، وتقضي على قادته وتقتل المدنيين، الأمر الذي تهدّد بالرد بمثله في لبنان
أسبوعان على حافة الهاوية ومن الخيارات الصعبة، مثلاً وقتاً وثقيلاً، وبدّدا التفاؤل المتزايد بأن إسرائيل وحركة حماس معنيّتان بالتوصل إلى وقف إطلاق نار، ما يوقف القتال على الجبهة اللبنانية، وسط ضغط دبلوماسي، وصل إلى مناقشة التفاصيل، على أساس أن المحادثات دخلت خط "العشر ياردات" (وزير الخارجية أنتوني بلينكن).
اللبنانيون أسرى الحرب واللاحرب، والشوارع والمحلات التجارية مفتوحة مع تزايد صور الشهداء الخمسمائة في غالبيتهم من مقاتلي الحزب، وألفي جريح، ونحو مائة ألف نازح وتدمير منطقة الحدود الجنوبية بالكامل في حياة مصنوعة من التضحيات، على الرغم من قدرة حزب الله على تجاوز عشرة أشهر من الحداد العميق، وهو أمر ليس له قاعدته الشعبية عند غالبية أخرى من اللبنانيين في مشهد سياسي متباين ومتناقض، ولا يعرف كيف سيوظف حزب الله وإيران كل تلك القوة داخلياً.
لقد شهدت إيران كيف نجحت استراتيجيتها المتمثلة بمحاصرة إسرائيل بوكلاء وبعدم إفساد اتفاق نووي جديد مع واشنطن، لكنها تشهد اليوم ضرب إسرائيل نقاطها الأكثر ضعفاً في طهران وبيروت والحديدة في اليمن، وكيف جرى محو قواعد الاشتباك القديمة في الشرق الأوسط، ما سيغيّر موقع الحزب في ما يخص إسرائيل، ويجعله في مكان آخر، من طرف عدائي على الحدود، يحافظ على الهدوء بعد العام 2006، إلى مرحلة جديدة مكلّفة جداً لمقاومة تقاتل في أرضها وبين ناسها، ويسقط مقاتلوها بين الأحياء، وينزح الناس وسط تدمير اجتماعي هائل. تسأل الناس عن أحوالهم، وهم يريدون حياة طبيعية،هم الذين يتلقون ضربات لا تحصى. في الجنوب فقد ناخبو الحزب منازلهم ذات مرة، ولا يريدون أن يحدث هذا مرّة أخرى.
الاختلاف الداخلي في لبنان على زمن حرب من دون سقوف مع خطورة توجيه المعركة نحو الداخل، صورة عن الانهيار التام.
وفي وقت يشعر المجتمع الدولي بقلق كبير إزاء الوضع في لبنان، وصل المبعوث الأميركي، آموس هوكشتاين، إلى بيروت "لرشّ السكّر على الميت"، ويحاول أن يدفع بمطالبة حزب الله أن لا يقوم بمبادرات متهوّرة من شأنها أن تقود لبنان إلى الخراب والدمار. في حين يبدو نتنياهو متناقضاً بشأن صفقة ترتيبات أمنية محتملة، حيث القطبان الأساسيان يمتلكان قدرات ومصالح ورغبات في إخراج السيناريو المتفائل، وهو يراوغ، خوفاً من أن تؤدّي الموافقة على وقف إطلاق النار إلى تحويل تركيز إسرائيل مرّة أخرى إلى أمراضها الداخلية ومحاكمته بوصفه مسؤولاً أول سياسياً عن إخفاق 7 أكتوبر (2023). يمكن أن تمنح عملية الاغتيالات نتنياهو الرياح السياسية المؤاتية، لكنه لا يستطيع أن يستمر في قتل الفلسطينين واللبنانيين والحرب إلى أجل غير مسمّى. ومع أن نجاح الصفقة وارد، لكن الحرب بشموليتها ودوافعها ستستمر، وإن بوتائر مختلفة.
ليست الأمور بالوضوح الذي عبّر عنه المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، في جملته "بالردّ العنيف"، من دون أخذ قضايا كثيرة غير متفق عليها، مثل كيف تبدأ الحرب وأين وكيف تنتهي؟، ومن شأن ذلك أن تخاطر إيران بتبديد استثمارها المستمر. والمؤكّد أن حزب الله يملك ترسانة من الصواريخ القادرة على ضرب إسرائيل بقوة، ولكن اللبنانيين شاهدوا إسرائيل وهي تدمّر جزءاً كبيراً من قطاع غزّة، وتقضي على قادته وتقتل المدنيين، الأمر الذي تهدّد بالرد بمثله في لبنان. مع ذلك، شهدا، إيران وحزب الله، أخيراً، انتكاسات، وسيضطرّان إلى الرد عليها، ولا يبالغان بذلك، ولكنهما لا يريدان أن تعتقد إسرائيل أن إحجامهما عن شن حرب واسعة يسمح لها بالذهاب إلى أبعد من ذلك، وقد يفضلان وفق صحيفة واشنطن بوست العودة إلى مراحل تاريخية من تنفيذ عمليات استخبارية أو ضرب مصالح يهودية في العالم، على وقع تحذيرات أميركية وغربية لطهران "أن حكومتها الجديدة واقتصادها قد يعانيان بشدة هجوماً واسعاً على إسرائيل". والرئيس الجديد، مسعود بزشكيان، كان وعد الإيرانيين الذين سئموا القيود الأخلاقية والركود الاقتصادي بمعالجة الضغوط المتزايدة، وتحسين العلاقات مع الغرب ومع الجوارالعربي.
الاختلاف الداخلي في لبنان على زمن حرب من دون سقوف مع خطورة توجيه المعركة نحو الداخل، صورة عن الانهيار التام.