مظفر النواب .. ما له وما عليه
لم يترك لنا معارف (وأصدقاء) مظفر النواب، الشاعر والمناضل الملاحق معظم سنوات عمره، ما نقوله عنه، نحن الذين لم يقدّر لنا أن نقترب منه أو نلتقيه إلا لماماً، أو عبر وسائط الميديا، وقد شاهدناه من خلالها وسمعناه، وقرأنا له، وتملّكنا تجاهه مزيجٌ من مشاعر الإعجاب، والانبهار، واستفزّنا في أشعاره، ما جعل اسمه ينطبع في وجداننا منذ قرأنا أولى قصائده "للريل وحمد" قبل ستين عاماً.
جاءته الشهرة منقادة لم يسعَ إليها كما لم يفكر فيها، وتلقف الناس أشعاره في كتبٍ طبعت مرّات، منها طبعات مزورة ومستنسخة، لم يعرف ناشريها، لكنه لم يسعَ للتحري عنهم ومقاضاتهم، ولم يصل إليه منها دينار واحد.
رفض أن يكون مرتبطاً بسلطة، كما رفض أن يُحسب على سلطة، حتى في فترات اقتراب رفاقه الشيوعيين من الحكم، ورفض عروضاً عدة ليكون "مسؤولاً رسمياً". عرض عليه صدّام حسين عندما استقبله إبّان "عرس" الجبهة الوطنية موقعاً متقدماً في وزارة الثقافة، لكنه اعتذر، وطلب أن يُسمح له بالسفر إلى بيروت لطبع مجموعة شعرية له. وفي تلك المقابلة، أهداه صدّام "مسدساً"، وعندما عاد إلى بغداد بعد الاحتلال، بدعوة من الرئيس الراحل، جلال طالباني، عرض عليه الأخير منصب "مستشار في رئاسة الجمهورية"، واعتذر عن عدم قبول المنصب، مكتفياً بجواز سفر دبلوماسي، يعينه على التنقل بين العواصم من دون منغّصات.
أكثر الشعراء العرب ممن كانت أشعارهم يجري تداولها سرّاً
قرأ أشعاره عراقيون من مختلف الطبقات، وأعجبوا بها كما نحن، وهو أكثر الشعراء العرب ممن كانت أشعارهم يجري تداولها سرّاً، وحتى الحكام الذين نال منهم في قصائد له، وشتمهم على نحو مقذع، كانوا يستمعون اليها بإعجاب. يُقال إن صدّام حسين كان يغالب دموعه كلما سمع شريط فيديو له، مع أنه خاصم البعثيين وتعرّض للاعتقال إبّان حكمهم، لكنه استطاع الهرب إلى إيران، بنية الوصول عبرها إلى الاتحاد السوفييتي، وألقى الإيرانيون القبض عليه، وسلموه لسلطة بغداد التي حكمت عليه بالسجن المؤبد، وطلبت منه أن يتبرّأ من حزبه، وسجّل موقفه بالرفض في قصيدةٍ على لسان أمه: "يا ابني/ لا تثلم شرفنا/ يا وليدي/ البراءة تظل مدى الأيام عفنة/ قطرة قطرة/ وبنظر عيني العميته، كلي (قل لي) ما أهدم حزب بيدي بنيته". وفي "عرس" الجبهة الوطنية، أطلق سراحه وسمح له بالسفر، ومن بيروت إلى دمشق، حيث طاب له المقام فيها بعد أن استضافته الدولة في منزلٍ خاص به، ثم ما لبث أن ترك دمشق إلى طرابلس، مستضافاً هذه المرّة عند معمّر القذافي، وتنقل بين ظفار وإريتريا والخرطوم، وأوروبا أيضاً. وبعد احتلال العراق، استجاب لدعوة صديقه جلال طالباني، للعودة إلى وطنه، لكنه لم يمكث سوى فترة قصيرة، رجع بعدها إلى بيروت وقد نال منه المرض، وانكفأ على نفسه، فلم يكتب بيتاً شعرياً واحداً ضد الاحتلال، ولم يعلن بصوته الذي كان يوماً المعبّر عن جرح وطنه الذي كان قد وصفه من قبل بأنه "جرح كبير، ما لمته ديرة ناس، ولا نامت عليه الكاع". كذلك لم ترد منه كلمةٌ واحدةٌ في رفض حكم المحاصصة الطائفية الذي شرعنته الولايات المتحدة. أكثر من ذلك، لم يتردّد في اعتبار مقاومة المحتلين "ضرباً من الخيال". ولم يقف ساخطاً أمام مشاهد وحشية المحتلين، ولم يعط من وقته ليتأمل في المرارات التي يعيشها مواطنوه، متجاهلاً ما يحدث أمام عينيه.
من المفارقة اللافتة أن تعزي الولايات المتحدة العراقيين بوفاة النواب، وأن تُصدر سفارتها في بغداد بياناً تصفه فيه بـ"المعبّر عن أصوات العراقيين وتطلعاتهم"!
ومن مكر التاريخ أن يقرّر مظفّر، في أواخر أيام حياته، الالتجاء إلى الإمارات طلباً للعلاج، ولم تخيّب الإمارات ظنه، إذ استقبلته بحفاوة، ووفرت له متطلبات علاجه، حتى قدّر له أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على أرضها، وهو القائل: "أصافح الليل مصلوباً على أمل/ أن لا أموت غريباً ميتة الشبح". ومن مكر التاريخ أيضاً أن يصل جثمانه إلى عاصمة بلده على ظهر طائرة "رئاسية" خاصة، وهو الذي كان قد جنّد نفسه في شبابه حرباً على كل الرئاسات والسلطات وممارساتها وطقوسها. والمفارقة اللافتة أن تعزي الولايات المتحدة العراقيين بوفاة النواب، وأن تصدر سفارتها في بغداد بياناً تصفه فيه بـ"المعبّر عن أصوات العراقيين وتطلعاتهم"!
وقد نال شاعرنا من المجد كما نال من السخط الكثير. وعلى أية حال، فقد غاب عنا في يوم بغدادي أغبر "مثل ما تنقطع تحت المطر شدة ياسمين"، ورحل عنا بكل ما له وبكل ما عليه.