مصر وأزمتها الاقتصادية وجوارها المضطرب
رغم انتهاء ما سمّيت بالانتخابات الرئاسية المصرية، بفوز المرشّح عبد الفتاح السيسي، على مؤيديه الذين كان يتنافس معهم، مختاراً لهم على عينه، بنتيجة تقترب من 90% من أصوات الـ 66% من المصريين الذين غصبوا على المشاركة قسراً في انتخاباتٍ أريد لها أن تبدو تعدّدية، مع إصرار تام على سحق واستبعاد أي صوت يبدو معارضاً حقيقياً من المنافسة، إلا أن الإعلام المصري عاد ليذكّرنا بأنها بمثابة تفويض للسيسي للحكم حتى عام 2030، مع أن كلمة التفويض نفسها كمصطلح شعبوي تتنافى مع الانتخاب جملة وتفصيلاً. لكن، لنرى ما يمكن للنظام عمله بهذا التفويض خلال هذه المدّة، في وجه تحدّيات اقتصادية وأمنية حقيقية، لا تخفى على أحد.
يوم إعلان النتيجة، عنونت "واشنطن بوست" أن "إعادة انتخاب السيسي هي الجزء السهل لكن مصر على حافة الهاوية"، أشار كاتب التقرير إلى طريقة الحشد القسري لموظفي القطاعين الخاص والعام، ناهيك عن موظفي الحكومة ومنتسبي برامج تكافل وكرامة بالتهديد والوعيد والترهيب أو بالترغيب. في اليوم نفسه، عنونت "نيويورك تايمز" تقريراً لها "غير مبالٍ بأزمات مصر، السيسي يستعدّ لست سنوات أخرى"، متناولة الانهيار الاقتصادي الذي حدث خلال الأشهر الـ 21 السابقة على الانتخابات، والتي انهارت فيها العملة، وارتفعت الأسعار إلى عنان السماء، وتوقف مصريون عديدون عن تحمل تكاليف اللحوم أو الرسوم المدرسية لأطفالهم، مع إشارات إلى الأزمة الاقتصادية الكبرى التي يواجه كل المصريين مظاهرها من ارتفاع أسعار سلع أساسية، كالبصل والسكر والدواء، وعدم توافرها، وتفاقم ظواهر الفقر والبطالة، وتدهور قيمة العملة مع شروط دولية بتعويمها، وأزمة ديون خارجية مستحقة تناهز 30 مليار دولار في 2024.
هجمات الحوثيين حوّلت البحر الأحمر كله إلى منطقة مضطربة، فهدّدت، ولو بشكل غير مباشر، الملاحة والسياحة
لدى مصر السيسي اليوم تحدّيات جمّة، ليس أقلها الحرب الجارية على حدود البلاد الشمالية الشرقية في غزّة، وأولوية إبقاء مصر مجرد وسيط خارج الحرب، والحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، والتي تكاد تكون قد تقوّضت عملياً، سواء بمخطّط التهجير أو بعدّة استهدافات لمواقع حدودية، قيل إنها بالخطأ، وذلك كله مع محاولة تهدئة قلق الرأي العام المكبوت بشأن معاناة الفلسطينيين وتبريده، حتى لا يتحوّل لأي فعل غير متوقّع، مع مقارناتٍ شعبية وعربية واسعة بين موقف النظام المصري ومواقف الفواعل دون الدولة في بلدان، كاليمن والعراق ولبنان وليبيا، من حيث قدرتها على التأثير في مجريات الحرب، وكسر الصمت والتخاذل العربي الرسمي، أو حتى بالمقارنة مع تنامي أدوار إقليمية على حساب القاهرة، أو بمزاحمتها والتنسيق معها، سواء في صفقات التهدئة أو الهدن الإنسانية وتبادل الأسرى، والتي تُظهر بوضوح وهن الدور الوظيفي المصري المعتاد وتراجعه وضعفه، خلال الحروب الخاطفة القصيرة السابقة.
ليس هذا فحسب، بل مع امتداد الحرب وتوسّع نطاقها جراء الصلف الإسرائيلي الأميركي، فإن هجمات الحوثيين حوّلت البحر الأحمر كله إلى منطقة مضطربة، فهدّدت، ولو بشكل غير مباشر، الملاحة والسياحة، ثاني وثالث أهم مصدر للنقد الأجنبي للبلاد، بعد تحويلات المصريين العاملين في الخارج، والتي تراجعت، هي الأخرى، بشدة في الشهور الماضية، وهو تحدّ جديد، لم يكن في الحسبان لدى النظام المصري.
وعلى الرغم من تقارير تفيد بأن الفوضى في البحر الأحمر تهدّد 10% من الاقتصاد العالمي، فإنّ فيها مبالغات من شركات الشحن وأجهزة الاستخبارات والإعلام الغربي، لتبنّي القول إن ما يفعله الحوثيون تهديد للتجارة الدولية، وهي رواية الاحتلال نفسه، وبالتالي، يتوجّه الضغط على الحوثي لوقف هجماته، بدلاً من أن يتجّه ضد إسرائيل لوقف الحرب، خصوصاً أن الحوثيين لم يستهدفوا غير إسرائيل والسفن المتجهة إليها، والسفن التي غيرت وجهتها منذ منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، وخلال 35 يوماً، أقل من 5% من السفن، وبالتالي، يجب تدقيق رواية شركات الشحن والتأمين والصحف المروجة لها، لكن هذا يظلّ تحدّياً لم يكن في الحسبان بطول الحدود المصرية الشرقية، ويضاف إليه تحدّي وجود القوة البحرية الدولية التي شكلتها الولايات المتحدة، واحتمالية بقائها لحماية أمن إسرائيل عملياً لسنوات مقبلة، وما يمكن أن يشكّله ذلك من قيود على حركة الدولة المصرية مستقبلاً.
لا تزال الرؤية المصرية للأحداث في السودان غير واضحة، ولم تتبلور بعد، سواء نظرياً أو فعلياً
إذا انتقلنا إلى الجنوب، يواجه السودان أسوأ أزماته على الإطلاق من اقتتال بين فريقين من الجيش نفسه، وانقسام مجتمعي حادّ بشأن ما تفعله مليشيا الدعم السريع، المعروفة بعدائها للنظام المصري والمصالح المصرية، والمدعومة من قوى إقليمية ودولية مناوئة للمصالح المصرية، والتي سبق واحتجزت ضباطاً وجنوداً مصريين في قاعدة مروي، ولا تزال الرؤية المصرية للأحداث في السودان غير واضحة، ولم تتبلور بعد، سواء نظرياً أو فعلياً، ولا يمكن الوقوف عليها، فمصر سلمت بالأمر الواقع في انفصال الجنوب أوائل العشرية المنصرمة، من دون فعل حقيقي مكتفية بتحسين علاقتها بالجنوب، ظناً أن هذا سيجلب الاستقرار، كما دعمت خطابياً الثورة على عمر البشير، باعتبارها ثورة على الإسلاميين، لكنها سرعان ما واجهت مشكلات أضخم، بالتزامن مع عدم استقرار منظومة الحكم الجديدة التي فشل الحراك في إرسائها، وصولاً إلى الوضع الحالي الذي تلعب فيه إثيوبيا ودول أخرى في الإقليم أدواراً أكبر بكثير مما تلعبه مصر في دولة هي مجال حيوي وعمق استراتيجي رئيسي لمصر وأمنها المائي والغذائي ووجودها ذاته.
وليس الحال غرباً أفضل بكثير مما هو عليه في السودان، سوى من ناحية تجميد الصراع المسلح مؤقتاً، من دون قدرة دولية أو محلية على التنبؤ بتوقيت تجدّده واشتعاله في ضوء انقسام حاد بين الشرق والغرب الليبي، بحكومتيهما وبرلمانيهما ومؤسّساتهما المتصارعة والمتناقضة مع وحدة التراب الليبي الذي بات مرتعاً لكل القوى الإقليمية والدولية عدا مصر، التي أصبحت فقط منسقاً وظيفياً لجزء من الخطة الأممية ومتلقية للمجموعات التي تجري إعادتها من العمالة المهاجرة بشكل غير شرعي لليبيا، بوصفها دولة عبور هشّة إلى أوروبا. وهنا يأتي البحر المتوسط في الشمال الذي هو بدوره أصبح مصدراً للتحدّيات، سواء فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط وأمن الطاقة أو الهجرة الشرعية، وهي ملفات مؤثرة بشدة في علاقة النظام المصري بالاتحاد الأوروبي ودول المتوسط على وجه الخصوص.
تعديلات الدستور التي مكّنت السيسي من تمديد ولايته ست سنوات، ثم الترشّح لفترة ثالثة، بمثابة إعلان انتصار على كل ما جاء به الربيع العربي
في هذا الإطار، تجد مصر الدولة نفسها في معركة مع حريقٍ متعدّد الجبهات، ورغم أن الأزمات الإقليمية أدّت إلى تآكل أي ضغط على النظام للإصلاح السياسي الداخلي، فإن الأزمة الاقتصادية التي ساهمت سياساته في تفاقمها أفرزت ضغوطاً جديدة تتعلق بربط الديون وعمليات الجدولة والتأجيل، أو المراجعة، بالأزمات الإقليمية، وتجري المساومة على قبول التهجير، وعلى اتفاق بشأن اللاجئين، واتفاقات أخرى بشأن الديون والاستثمارات الإقليمية والدولية بشكلٍ يحدّ من خيارات النظام السياسي الذي بدأ ولايته الثالثة بعمليات بيع واسعة لأصول الدولة وترويج إعلامي، لأن حلّ الأزمة الاقتصادية لن يكون إلا ببيع أصول الدولة وفنادقها ومطاراتها وهيئات التأمين والبنوك، وكل ما يمكن أن يباع، وتروج الحكومة أنها أدارت أكبر عمليات التخارج للدولة المصرية من السوق، من دون أن يتساءل أحد: هل قادت عملية الخصخصة تلك إلى استقرار نظام حسني مبارك الذي كانت الظروف الدولية حوله أكثر استقراراً بكثير مما هي عليه حالياً؟
كانت تعديلات الدستور التي مكّنت السيسي من تمديد ولايته ست سنوات، ثم الترشّح لفترة ثالثة، بمثابة إعلان انتصار على كل ما جاء به الربيع العربي، وأبسط معانيه تداول السلطة، وتحديد مدّة الرئاسة بفترتين، جرى التوافق على جعل الفترة الرئاسية حينها بأربع سنوات. لكن هل يعني هذا الانتصار القضاء على كل مسبّبات الثورة والحراك اقتصادياً واجتماعياً، بينما تشير كل المؤشّرات إلى تفاقمها مع جوار مضطرب، كما لم يكن من قبل؟