مصر بعد 45 عاماً على السلام مع إسرائيل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
حلّت الذكرى الخامسة والأربعون لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (26/3/1979)، في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي تشكّل، بمنظور تراكمي، "محصّلة منطقية" للأخطاء الهيكلية الجسيمة في نهج التسوية/ التطبيع العربي مع إسرائيل؛ النهج الذي شجّعها على المضي في جرائمها، واستكمال مشروعها الاستيطاني (إلى حدّ التفكير بالعودة إلى استيطان غزّة مجدّدا، وتهجير أهلها منها)، من دون خشية من ردود الأفعال المصرية أو العربية.
عن التوظيف الأميركي للتسوية
وفي سياق تحليل التداعيات التراكمية لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، على ضوء مشهد حرب غزّة الراهنة، وانعكاساتهما على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وسيناريوهاته المستقبلية، ثمة أربع ملاحظات؛ أولاها نجاح وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، عبر سياسة "الخطوة خطوة" (Step By Step Policy)، في تحويل مسار الصراع نحو التسوية، وتفكيك ترابط المساريْن، المصري والسوري، إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وجذب الرئيس المصري، أنور السادات، نحو "التسوية المنفردة"، بعيدا عن باقي الأطراف العربية.
وبسبب مثابرة الاستراتيجية الأميركية على فكّ ارتباط القاهرة بالصراع العربي الإسرائيلي، نجحت واشنطن، خمسة عقود، في احتكار إدارة عملية التسوية وتوظيفها، لتحقيق هدفيْن عزّزا مكانة إسرائيل، وأولوية أمنها؛ أحدهما إدماج دولة الاحتلال في نسيج المنطقة العربية، بما يحفظ أمن إسرائيل، ويضمن بقاءها، وتفوّقها، وتحصيلها "الشرعية الإقليمية" تدريجيا. والآخر تجريد الشعب الفلسطيني من أي دعمٍ عربي أو إقليمي، يمكن أن يساعده في نضاله التحرّري، وإحداث تناقضاتٍ فلسطينيةٍ عربية أولا، ثم عربية عربية تالياً، ثم فلسطينية فلسطينية ثالثاً، بشأن كيفية إدارة الصراع مع إسرائيل، بما يُنهي جوهر الصراع، بالتوازي مع تركيز المنطق الدعائي الأميركي/ الإسرائيلي على "تسميم" الثقافة العربية، عبر تقديم قيم التنمية الاقتصادية والازدهار والفردانية والريادة واللبرلة، وتأخير قيم المقاومة واستعادة الحقوق، بحيث يصبح التعاون السياسي والاقتصادي مع إسرائيل سبيلا إلى التنمية والازدهار، وأن يصبح التخلّي عن الثوابت السياسية العربية نوعا من "الواقعية السياسية"، كما ظهر خصوصاً بعد تولّي السادات رئاسة مصر، وهو الذي برّر التوجّه المصري نحو التسوية عبر مقولات "الواقعية"، و"انعدام البدائل في ظل امتلاك أميركا 99% من أوراق اللعبة"، و"ثقافة السلام" و"مصر أولا"... إلخ.
لم تتوانَ واشنطن، بعد عملية طوفان الأقصى، عن تزويد حليفها الإسرائيلي بأحدث أنواع الأسلحة الفتّاكة، التي تمنع إلحاق "هزيمة عسكرية صريحة" بإسرائيل
وكما كان الحال في حرب 1973، لم تتوانَ واشنطن، بعد عملية طوفان الأقصى، عن تزويد حليفها الإسرائيلي بأحدث أنواع الأسلحة الفتّاكة، التي تمنع إلحاق "هزيمة عسكرية صريحة" بإسرائيل. بيد أن اللافت هو نجاح فصائل المقاومة الفلسطينية في كشف تحوّل إسرائيل إلى "عبء استراتيجي" على واشنطن، وعدم استغناء إسرائيل عن الدعم الخارجي، سيما الأميركي؛ إذ وظّفت إدارة بايدن شنّ حركة حماس هجوم 7 أكتوبر (2023)، في إعادة ترسيم السياسات الأميركية في إقليم الشرق الأوسط برمّته، انطلاقا من الساحة الفلسطينية، على نحو ما عكسه الدعم غير المحدود لإسرائيل، سواء في زيارة الرئيس بايدن إسرائيل، أم جولات وزير خارجيته أنتوني بلينكن، أم نقل وزارة الدفاع الأميركية كمّياتٍ كبيرةً من الأسلحة إلى إسرائيل، أم قرار نشر حاملتي الطائرات أيزنهاور وجيرالد فورد في الشرق الأوسط، أم تشكيل "تحالف الازدهار" لحماية الملاحة في البحر الأحمر، أم مشروع بايدن لإنشاء رصيف عائم قبالة سواحل غزّة، أم عودة الماكينة الدبلوماسية الأميركية للعمل بأقصى طاقاتها، لاستكمال مسارات التطبيع السعودي الإسرائيلي، وربطها بوعود "الدولة الفلسطينية" بعد "تجديد" السلطة الفلسطينية و"إصلاحها".
وعلى الرغم من تأثير هذا الحضور الأميركي المباشر على مسار المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية الراهنة، فإنه يؤكّد محدودية ثقة واشنطن في كفاءة الجيش الإسرائيلي، سيّما مع غياب أفق الحل السياسي، وعجز ساسة إسرائيل وجنرالاتها عن تقديم أية حلول جوهرية تُخرج إسرائيل من مأزقها الاستراتيجي، ناهيك عن احتمال الانزلاق إلى حربٍ إقليميةٍ أوسع، لا تريدها واشنطن على الأقلّ حاليا.
التسوية وأولوية "الأمن الإسرائيلي"
تتعلق الملاحظة الثانية بأثر معاهدة السلام في تكريس إسرائيل، فاعلاً إقليميّاً محوريّاً في الشرق الأوسط، فقد أنهكت سياسات التحالف الأميركي/ الإسرائيلي كلّ الأطراف الرسمية العربية، وأوجدت تضارباً/ تنافساً بين المسارات التفاوضية، ما أفضى إلى تعزيز "تبعيّة" أغلب الدول العربية لأميركا وأوروبا، ودمج إسرائيل في المنطقة، ومساعدتها على قطف ثمار التسوية/ التطبيع من دون تقديم أية "تنازلات" أو التزامات بالحقوق الفلسطينية. وفي المقابل، نجحت إسرائيل، إلى حدٍّ كبير، في حصر الصراع كله في مسألة "أمنها"؛ إذ أدّت التسوية إلى تشتيت الطاقات الرسمية العربية واستنزافها والانتقاص من شرعية "الإطار العربي"، عبر فرض أربعة شروط إسرائيلية: أولاً، تجزئة التسوية، وتحييد الأطراف العربية القوية عسكريّاً، سيما مصر. ثانياً، تحصيل إسرائيل مزيداً من "الشرعية الإقليمية" ونزع الشرعية عن قضية فلسطين والمقاومة. ثالثاً، تغيير مكوّنات "العقل الجماعي العربي" وقيمه، ليرضخ للتفسير الصهيوني للتاريخ ويبتعد عن ثقافة المقاومة والكرامة، ويحصل العرب على "التنمية والازدهار" في ظل "ثقافة السلام". رابعاً، رفض إسرائيل التعامل مع أي نظام إقليمي في المنطقة، ما لم تكن عضواً أصيلاً في تفاعلاته؛ بمعنى تغيير خريطة التفاعلات العربية عبر إدماج إسرائيل في قلبها، وفرض "سلام الهيمنة الإسرائيلي"، على إقليم الشرق الأوسط برمّته.
نجحت إسرائيل، إلى حدٍّ كبير، في حصر الصراع كله في مسألة "أمنها"
بيد أن المفارقة بعد مرور قرابة 50 عاما من التسويات والتطبيع السري والعلني، هي صلابة أداء المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية واليمنية، وتحوّلها "خصما قويا" يقارع التفوّق العسكري/ التقني الإسرائيلي والأميركي، بروح نضالية ابتكارية مبدعة في أساليب المواجهة، التي تشمل "الأبعاد المعنوية والنفسية"، ناهيك عن الاستبسال الفلسطيني في حرب غزّة 2023/2024، في النواحي القتالية والميدانية، عبر تعدّد خلايا المقاومة في قطاع غزّة، وانتشارها الميداني، ما أسهم في استنزاف قوات الاحتلال قرابة ستة أشهر من المواجهات المحتدمة، التي يمثل استمرارها في حد ذاته، "إنجازا نوعيا" لفصائل المقاومة، ربما يفوق إنجاز هجوم 7 أكتوبر، نفسه.
تآكل الدور الإقليمي المصري
تتعلق الملاحظة الثالثة بتغيّر طبيعة الدور المصري جذريا بعد معاهدة السلام؛ إذ يبدو واضحاً أن التوظيف الإسرائيلي/ الأميركي لسلسلة اتفاقيات التسوية العربية الإسرائيلية، نجح في تحويل دور القاهرة من "طرفٍ"، إلى "وسيط" في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على نحوٍ يشكل ضغطا دائما على الطرف الفلسطيني، سواء كان منظمة التحرير الفلسطينية سابقا، أم فصائل المقاومة في غزّة حاليا، ما يعني أن مواقف النظام المصري باتت محكومةً بسقف الاشتراطات الأميركية الإسرائيلية، سيما مع إحجام القاهرة عن استخدام نفوذها وأوراق قوّتها في مواجهة تل أبيب، وتحولها عوضا عن ذلك إلى استخدام معبر رفح ورقة ضغط سياسية ضد قطاع غزّة.
وبعكس ما يراه أنصار مدرسة "الاشتباك السياسي" مع إسرائيل، الذين يروْن أن الرئيس السادات نجح في استرداد/ تحرير سيناء، في حين فشل السوريون والفلسطينيون في تحقيق إنجاز مماثل، يتضح الآن بعد قرابة خمسة عقود من منهج "التسويات الجزئية"، أن أغلب مشكلات مصر الراهنة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تولّدت من تراكمات "مسار كامب ديفيد"، خصوصا الرهان الخاطئ على "نزاهة" الدور الأميركي؛ إذ تكاد القاهرة تخضع لـ"سلام الهيمنة الإسرائيلي"، ما أدّى في المحصلة إلى "تأزيم" العلاقة المصرية الإسرائيلية نفسها، (كما يلاحظ حالياً في التهديد الإسرائيلي باجتياح رفح، والسيطرة على محور فيلادليفيا، مع عدم رغبة القاهرة في الضغط بجدّية لوقف هذا المسار الخطير).
مواقف النظام المصري باتت محكومةً بسقف الاشتراطات الأميركية الإسرائيلية
وعلى الرغم من توالي التطوّرات والاتفاقيات في عملية التسوية، وصولا إلى اتفاقات أبراهام عام 2020، فإن المعاهدة المصرية الإسرائيلية تبقى الأهم، كونها ركيزة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط؛ فبعد أن كانت مصر الناصرية تنشط في سياساتها الخارجية في الدوائر العربية والأفريقية والآسيوية، وتستفيد من "علاقات توازنية" بين مختلف القوى الدولية والإقليمية، انحسر الدور المصري بشكل ملحوظ، سيما في عهد حسني مبارك (1981-2011)، الذي قام ب"أمننة" (Securitization) العلاقات الإقليمية للبلاد وتضييق مفهوم الأمن القومي، ليصبح مرادفا لأمن النظام الحاكم؛ الأمر الذي أفرز ثلاث نتائج متداخلة؛ أولا، تحوّل "الأمن الاقتصادي" إلى قمّة الأولويات، كما توضح خطابات مبارك وسياساته الداخلية والخارجية، وتزايد الاعتماد المتبادل بين نظام حسني مبارك والنظم الخليجية، استناداً إلى تنامي أعداد العاملين المصريين في دول الخليج، بالتوازي مع زيادة المساعدات الخليجية لمصر وتصاعد الاستثمارات، ما يعني تخليق مصالح اقتصادية مشتركة، ومستويات من التحكّم في معايش المصريين، خصوصا مع التغلغل الإماراتي في الاقتصاد (صفقة رأس الحكمة)، ناهيك عن تنامي علاقات أبو ظبي مع مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والأزهر. ثانيا، تجاهل النظام المصري دخول إسرائيل على خط مشاريع التعاون المائي مع إثيوبيا، التي تربطها بمصر علاقات متوترة بسبب سياسات مبارك ثم سياسات عبد الفتاح السيسي. ثالثا تصنيف "الإسلام السياسي" تهديدا لأمن الدولة المصرية (بسبب طبيعته العابرة للحدود، وقدرته على الحشد ضد النظام، ومزاعم استخدام الإسلاميين العنف ضد النظام والأقباط).
وإلى ذلك، يبدو واضحا تراجع دور مصر الإقليمي، ودوران سياساتها في فلك دول مانحة، أو مهيمنة، وتهميش دور القاهرة في قضايا فلسطين وسورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن والسودان وأمن البحر الأحمر؛ فلم تعد السياسة المصرية تنسجم مع مكانتها التاريخية والسياسية؛ بل أصبحت تعكس هواجس النظام داخليّا وإقليميّا، دون التزام مقتضيات أمن مصر الوطني/القومي، الذي يمتد خارج حدودها الجغرافية، ما يفرض الاهتمام بتأمين مصالحها في منطقتي بلاد الشام (خصوصًا فلسطين) وحوض وادي النيل.
قبول مصر الاعتراف بإسرائيل، ضمن سقف "حكم ذاتي للفلسطينيين"، قلّص البدائل أمام الأطراف العربية
تتعلق الملاحظة الرابعة بانعكاسات خيارات التسوية المصرية على تضييق هامش خيارات الأطراف العربية الأخرى، خصوصاً الطرف الفلسطيني؛ إذ تضمّن اتفاق كامب ديفيد (17/9/1978) اتفاق إطار للسلام في الشرق الأوسط، يشير إلى البدء بمفاوضات لإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزّة والتطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 242.
وليس مبالغة القول إن قبول مصر الاعتراف بإسرائيل، ضمن سقف "حكم ذاتي للفلسطينيين"، قلّص البدائل أمام الأطراف العربية، بسبب وزن مصر العسكري وثقلها الديمغرافي، سيما مع عجز الدول العربية عن ملء فراغ الدور المصري، وهيمنة فكرة "تعريب" كامب ديفيد على السياسات العربية، سواء في أفكار الأمير فهد للسلام 1981، أم اتفاق أوسلو 1993، أم اتفاق وادي عربة 1994، أم إعلان القادة العرب في قمّة القاهرة صيف 1996، أن "السلام خيار استراتيجي"، ردا على سياسات بنيامين نتنياهو وتصريحاته، إبّان توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، لأول مرة، أم تبنّي القمّة العربية في بيروت ربيع 2022 "المبادرة العربية للسلام".
وليس مستغرباً مع قبول مصر فكرة "الحكم الذاتي للفلسطينيين"، أن يفشل مسار أوسلو في التطوّر نحو "دولة فلسطينية" لتكون المحصلة بعد 30 عاماً من اتفاق أوسلو هي ما نشاهده حاليا من مشاهد "حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة"، لكي يقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس على معبر رفح (23/3/2024) مناشداً إسرائيل تقديم التزام بالوصول غير المقيد للسلع الإنسانية إلى جميع أنحاء قطاع غزة ولإطلاق سراح الرهائن في القطاع.
هل تغيّر المقاومة الفلسطينية المعادلات الإقليمية؟
يبقى القول إن تحليل مآلات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، في ذكراها الخامسة والأربعين تكشف أربعة أمور؛ أولها عدم جدّية إسرائيل في التسوية، على الرغم من توظيفها أكثر من خمسة عقود، وعدم رغبة القوى العسكرية والسياسية والمجتمعية الإسرائيلية، في أية "مصالحة حقيقية" تلتزم الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة. ثانيها استمرارية السياسات الأميركية/ الغربية في دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من مخاطر انفجار الصراع الإقليمي وتوسعه خارج حدود السيطرة. ثالثها تعاظم خسارة مصر والعرب إجمالا من مسارات التسوية والتطبيع، على حساب قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، غير القابلة للتصرّف. رابعها أن ارتقاء العامل التحرّري الذاتي وصلابة المقاومة الفلسطينية، قد تُحدثان تغييرا إيجابيا في وزن البعديْن الفلسطيني والشعبي العالمي، في الضغط على السياسات الدولية والإقليمية لإنشاء "دولة فلسطينية" في المدى المنظور، سيّما في حال حدوث ثورات عربية جديدة، تعيد وزن البعد الشعبي العربي إلى المعادلات الإقليمية والدولية، وهو أمرٌ لا يمكن استبعاده بالمطلق، حتى لو استعصى قليلا.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.