مصارعة الثيران بين العرب والإسبان
تصاحب عيد الأضحى، ومنذ أن فشت كاميرات الهاتف، عروض مصارعة ثيران على الطريقة العربية، لا أعرف أين يمكن تصنيفها، في باب الملاهي والطرائف، أم في باب المصائب والنوائب. مصارعو الثيران العرب هم المضحّون والضحايا، وليس عندهم عدّة ولا عتاد ولا استعداد ولا زناد، فهم ليسوا مثل الإسبان الذين يجلّون مصارعيهم أحسن الإجلال.
أترصّدُ في كل أضحى مبارك أن تبثّ جهة ما، تطوعاً لوجه الله، طريقةً مثاليةً لذبح الثيران، أو أن تبادر إحدى قنوات التلفزيون الإسلامية إلى بثّ الطريقة الفضلى للذبح، لكنهم لا يفعلون، بل تتعالى الدعوات باستنكار الذبح من بعض المثقفين المتغرّبين الحداثيين مع أنهم من أكلة اللحوم! ورأيت فيلماً على "يوتيوب" عنوانه "الطريقة الصحيحة لذبح الأضاحي"، فاستبشرت خيراً، لكني وجدته مثل كل الأفلام، بطله ثور نطح أصحابه ومالكيه، وحطم سيارتهم، وانطلق متحرّراً من قيوده، وهو يردد بيت أبي القاسم الشابي: إذا الثور يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر.
كان فيلماً تختلط فيه الملهاة بالمأساة، مثل كل أفلام إعداد الثيران للذبح، ينتهي عادة بهروب الثور بعد التنكيل بالمضحّين، كما كان عنترة بن شداد يفعل بالأعداء في حومة الوغى.
كل الثيران ثائرة، سوى ثور الشيف بوراك، التركي الضخم الذي تقدّم ضاحكاً مستبشراً إلى حتفه، وبوراك يمشي بجانبه، كل قد علم صلاته وتسبيحه، فلعله من إنجازات حزب العدالة والتنمية أدام الله ظله الظليل ونسيمه العليل. ولم نر في فيلم بوراك سكيناً، ولم نشهد دماً، فالسنّة ألا ترى الأضحية السكين، ونحن أوْلى من الأضحية. ثم رأينا الطباخ العالمي بوراك الذي يقدّم عروض المائدة كأنها عروض سيرك وألعاب خفة، وهو يوزّع لحم الثور الأنيق العظيم في أكياس نظيفة أنيقة، عليها شعارات وتهاني، وبحصص متساوية على الجيران، وهو ما يذكّر بقول ماكس ويبر في مقالته "السياسة باعتبارها مهنة": إنّ الدولة هي المجتمع البشري الوحيد الذي يدّعي احتكار الاستخدام الشرعي للقوة البدنية، ويجب أن يحدُث عبر عملية شرعية.
أهل المغرب العربي في الجزائر وتونس مولعون بمناطحة الكباش، وهم يعرفون أنَّ الإسلام يحرّم المصارعة لما فيها من أذىً لهذه الحيوانات، والرهان عليها أحرم، وهم يقولون، في مقابلات التلفزيون، إنهم مغرمون بها، ويستغفرون الله، لكن الثيران غير الأكباش، فهي ضخمة، وعصية على التدريب، والثيران لا تناطح بعضها مثل الأكباش، وهي ثائرةٌ دوماً، تنطح حتى ظلالها، وهي قويةٌ يصعب ترويضها والسيطرة عليها.
شاهدت فيلماً لمسلمين من بلادٍ بعيدة، يقودهم طبيب بيطري، يعرض طريقةً صحيحةً لذبح ثور في عيد الأضحى، وقد أحاط به عشرة أشخاص من أولي القوة، وربطوا الثور من جميع الجهات، فارتبتُ في الأمر وشكّكت في أنهم قد سقوا الثور مخدّراً، أو أن الطبيب كان يقرأ تعاويذ سحرية عليه!
والخلاصة أيها السادة: إنَّ الاسبان أعقل منا وأكثر سداداً، فهم ينظّمون مصارعات ثيران تدرُّ على خزينة الدولة ملايين من الدولارات، ويصير مصارع الثيران بطلاً قومياً، وهو يجندل الثور في ساحة الوغى، بعد عرضٍ يطول ساعة، يستمتع به الملايين، والمصارعة علم ورياضة شاقة وشائقة.
ويزعم فلاسفةٌ أن العرض يطهّر الناس من العنف، في حين أن العروض العربية في الأضحى مهدورة، والضحايا فيها هم أصحاب الأضحية، ولا يخلو العرض المصوّر بكاميرا مذعورة في يد الضحية من خسائر مادية، لا نراها في العرض الإسباني. وسبب الأمر كله أن الدولة مشغولة بذبح الثورة عن الثور والأضحية، وأننا نخسر مرتين أو ثلاث: مرّة بهرب الثور وجندلته بالرصاص غدراً، ومرّة بخسارة عرض ترفيهي، ينقلب إلى عرض مأساوي، ومرّة بخسارة الصراع السياسي وإمكانية تعويضه بصراع الثيران، ومرّة بإسعاف الضحايا إلى المشافي المشغولة بضحايا كورونا، فهل من مدّكر.