مشهدان في العوالم السورية
الأحداث المتواصلة في السويداء ودير الزور تفصح الكثير عن أحوال "البُلدان" الكثيرة التي لم يعد يجمع في ما بينها إلا اسم سورية الذي خبا معناه في حضرة التقسيم الحاصل. لم يعد اسم المنطقة يتقدّم على البلد فحسب، بل صارت المناطق يُشار إليها بحمولاتها السياسية وبألقابها الرطينة: هناك مناطق "الإدارة الذاتية" الكردية التي يُعرف جيشها بـ"قسد" على حساب الاسم الكامل الذي يرد فيه نطق سوريا، "قوات سوريا الديمقراطية". السياسي طغى على الجغرافي في مصطلحي شرق الفرات وغربه. كذلك مناطق خفض التصعيد بين إدلب وأرياف حلب وحماة، ويُرمز إليها اليوم بأراضي "الجيش الوطني" (تركي الهوى) و"مناطق الهيئة"، أو تنظيم النصرة قبل أن يجد لنفسه لقب الدلع "هيئة تحرير الشام". منطقة البادية تتغير تسمياتها بحسب القوة المسيطرة بين معسكر النظام ومليشياته المعولمة، وبين "داعش" الذي يغير عليها يومياً أو أسبوعياً، فيترك خلفه عشرات الضحايا من رعاة الماشية وجامعي كمأة لا يكتمل "جهاد" من دون قتلهم. هذا شيء من الحاصل خارج مناطق سيطرة النظام. أما في الأرض الناجية من المؤامرة، فللجحيم اسم واحد لا منافس له، سورية ــ الأسد. لكن تحت السقف الأسدي، عشرات التسميات التي يصعب رصدها كون الفارسي فيها ثم الروسي يغلبان على ما يمكن للسان العربي نطقه.
في السويداء، انتفاضة شعبية جميلة كجمال كل البدايات. فيها الرجال والنساء جنباً إلى جنب، من كل الأعمار، رقص وغناء وشعر وفن خطابة معروف بها سكان جبل العرب. فيها عفوية وسجالات ونقاشات حرّة لا تنتهي حول الطريقة المثلى للتخلص من الجحيم الأسدي من دون تكرار أخطاء الماضي إن أمكن. فيها توق إلى الديمقراطية وكرم ونخوة وخوف، لأن من لا يخاف عليه أن يفحص إنسانيته. فيها فزْعة مدنية وسهرات في الساحات العامة، فيها لجوء إلى ما يميل كثيرون للوذ به وقت الشدة، إلى الدين ورجاله، فترى شيخ العقل يصبح مدنياً، لا تسمع في خطبه لا فتاوي ولا ما ورائيات ولا تحريم إلا التعرض للمحتجين بالعنف. في السويداء، الردّ الأبلغ على شائعات نيّة سكان المحافظة الانفصال عن سورية وتقسيم البلد، أن البلد مقسَّم فعلاً، وأن ما يحاول أهل الجبل فعله هو إعادة توحيده. هذا شيء من محاولات السويداء لاقتراح بديلها عن الأبد البعثي.
السويداء، مع أنها ريفية بامتياز، تقدّم في حراكها شيئاً كثيراً من الوعي المديني الوحيد القادر على فتح آفاق لتحول ديمقراطي. أكثر ما يتردد في الشعارات والهتافات، مصطلحات المواطنة، الديمقراطية، الدولة المدنية، اللاطائفية، القضاء المستقل. كل ما هو عكس البداوة ومنطقها التي لم يفعل النظام إلا تغذيتها منذ استحوذ على السلطة بانقلابه، فقضى على رموز أهل المدن داخل ثورته ووضع الريفيين في قيادة الجيش والحزب والدولة.
أما في أقصى الطرف الآخر، الشمالي الشرقي من سورية، في دير الزور، فحرب من التي تهواها القبائل. حرب العربي ضد الأعجمي مع نبش لكل أحقاد التاريخ واختراع أخرى متخيلة لتغذية اقتتال الـ"إما نحن أو هم" و"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". وإن كان القوميون الأكراد ارتكبوا ولا يزالون ما أمكنهم من أخطاء في الحسابات والرهانات، فإن عرب المعسكر المعارض في المقابل فعلوا ما بوسعهم لزيادة التباعد مع الأكراد ولمراكمة عداوات تجعل العيش في بلد واحد مشروع حرب دائمة. مسؤولو "قسد" قرروا أن دير الزور مقسومة إلى فسطاطين: العشائر التي لا تنتمي إلينا فإنما هي مع داعش. ولأن إرثهم معجون بالأدبيات اليسارية المستقاة من زمن حروب الاستعمار والاستقلال، فإنهم قرروا أن "الأرض لمن يحررها"، وما ذلك إلا استباحة وسطو بتعبير ملطّف. حرروا المناطق العربية الصافية في دير الزور من "داعش"، فشقّوا لأنفسهم طرقات الهيمنة عليها برضى وموافقة وتواطؤ كبار عشائرها العربية. وككل قصة قبلية، لا بد أن يأتي يوم ويحصل الخلاف، وهو يطيح من دربه كل عاقل، ويستدعي الفزْعة الدموية، بغض النظر عن سبب الخلاف، أكان حصة في السلطة، أو لأن كردياً أحب عربية أو بالعكس، فقامت القيامة التي لن تقعد طالما أن العشائر حاضرة.
ما يحصل في السويداء منذ ما يقارب الشهر يحيي الأمل. يرسم الابتسامة بجوار القلق. أما حرب دير الزور، فهي تذكّرنا بكم أنّ الماضي هو المستقبل المفضّل لدى كثيرين منا.