مشاوير دلال أبو آمنة
أما أنه موسمٌ أول من برنامج "مشوار ستّي" اكتملت حلقاتُه الأسبوع الماضي، فذلك يعني أننا موعودون بأن نشاهد على شاشة تلفزيون "العربي 2" حلقات موسمٍ ثانٍ منه، وقد يسّرت الجاذبية المشهدية والمتعة البصرية والحيوية الفنية والفائدة الثقافية، هذه كلها (وغيرُها) فيه، إعجاب جمهور المشاهدين الواسع الذي استقبله بفرح وبهجة. قام البرنامج على فكرة المغنية الفلسطينية، دلال أبو آمنة (1983)، تجوالها بصحبة سيدات فلسطينيات، ورفقة شبّان عازفين وموسيقيين، في مدينةٍ فلسطينيةٍ في كل حلقة، والتعريف بذاكرتها الفنية، بتاريخها وراهنها، بنضال أهلها وكفاحهم، بأغانيها الشعبية وموروثاتها ومنتوجاتها وصناعاتها وحقولها، فتجول عيون المشاهدين في أزقةٍ وحاراتٍ وموانئ وطرقاتٍ، ويدخلون منازل وبيوتا عتيقة وجديدة، وأسواقا ومحلاتٍ ودكاكين وأفرانا وورشات أعمالٍ ومهن، ويسمعون أغنياتٍ بلا عدد، من الموروث العتيق، ومن الجديد الموصول بإيقاعات فلسطين وتنغيمات ناسها. ولأن الحكي ليس مثل رؤية العين، فإن ما شوهد في الحلقات التي تجوّلنا فيها، نحن الذين اغتبطنا بمشاوير دلال أبو آمنة ورفيقاتها، كان بديعا حقّا، وقد آلفَ بين الجديد والقديم، بين الأصيل والمُحدَث، وبين أجيالٍ من الفلسطينيين في مدنهم، يحرسون ذاكرتها، ويحمون رواياتها ومحكيّاتها من المحو، وبين موسيقاتٍ وألحانٍ شاميةٍ وفلسطينيةٍ ومصرية، وبين المديني والبدوي والقروي. وكان بديعا، من قبلُ ومن بعد، أنه يتقدّم بالمرأة الفلسطينية، تروي وتغنّي، وتؤرّخ وتوثّق، وتسيّج فلسطين بحكايات الصمود والبقاء والألفة والأنس.
غنّت الدكتورة في علوم الدماغ، دلال أبو آمنة، في "مشوار ستّي" مواويل وفلكلورياتٍ وأهازيج وأغنياتٍ ومقطوعاتٍ بألحانٍ وتنويعاتٍ عديدة، أعادت صياغات بعضها، وغنّت من الموروث الغنائي النسائي ما ليس مشهورا، وغنّت من كلماتٍ شاركت في كتابتها، ومن ألحان شبّانٍ موهوبين جدد. وذلك كله في مشهدياتٍ أظهرت ما يضجّ به المكان الفلسطيني من حياة، وما ينطق به من بدائع، وما يُمتع العيون، حيث فضاءٌ أخضر وسماءٌ وديعةٌ وبحرٌ رحب. تلغي المشهديات، المصوّرة بعينٍ مُحبّةٍ، المحتلّ الإسرائيلي، لأن الوجدان الفلسطيني الجامع والموحّد هو الموضوع هنا، هو المسألة التي تبدو شاغل البرنامج المبتكَر. ولذلك، بالقدَر الذي أبهجتنا الأغاني والألحان والإيقاعات والأصوات، وبقدر ما ازدان به التجوال في فلسطين بحضور دلال وإطلالاتها وحلاوة أحاديثها ومحاوراتها، كان عظيم الإفادة ما أفضى به مختصّون ومؤرّخون وآثاريون وناشطون عن تاريخٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وفنيٍّ لمدنهم، وقد زارتهم دلال وصحبُها، سألتهم فأجابوا. وهكذا، حضرت عكا وحيفا ونابلس والناصرة ورام الله وبيت لحم والقدس ويافا وطبريا وجنين والنقب والخليل وغزّة، عواصم لوجدانٍ فلسطينيٍّ واحد، تحتشد فيه ما صنعته الفنون والإبداعات في هذه المدن من جمال. تحدّثوا، إلى دلال ورفيقاتها ومن صحبها من ضيوفٍ معها، ولنا نحن النظّارة، عن أم كلثوم تغنّي في حيفا وأسمهان تغنّي في القدس ولورا دكاش تغنّي في يافا، وعن أسوار كيف بُنيت، وعن أسواقٍ كيف صارت، وعن مأكولاتٍ شعبية ومصنوعاتٍ يدوية، وعن كثيرٍ يؤكّد المؤكّد عن فلسطين ناظما بين راهنٍ يقاوم فيه ناس هذه الأمكنة المحتلّ الذي يريد مصادرة الأرض والرواية، الصنّاع والمزارعون والبائعون، الشيوخ والصبية والفتية، والنساء اللواتي يطرّزن ويكافحن، وماضٍ لا يبتعد إلا ليقترب، طالما أن ثمّة من يحمون البهيّ فيه، من قماشة دلال أبو آمنة، ورفيقتها الباحثة في التراث الفلسطيني نائلة لبّس، وكذا المؤرّخان جوني منصور في حيفا وعبد القادر سطل في يافا، والموثّق البصري طارق البكري في القدس والأثري في طبريا وليد الأطرش والباحث رامي يزبك في جنين، وغيرهم كثيرون ممن أجادوا القول.
إن أراد المحتلّ عزل غزّة عن جسدها الفلسطيني، فقد أمكن لدلال وفريقها، ومن قاموا على البرنامج المتفرّد (إخراج أكرم عودة، إشراف عام موسى دياب، منتج منفذ إلياس خوري)، أن يعبُروا إلى الناس فيها، إلى نساءٍ مقداماتٍ فيها، عبر البثّ المتبادل للصور والتواصل بتقنيّاته الحديثة. وهكذا، جدّدت آخر حلقات الموسم الأول من "مشوار ستّي" القول عن فلسطين الواحدة. وهنا، يحسُن التنويه بالحلقة التي ارتحلنا فيها إلى بادية النقب، ثقافةً وأنفاسا واجتماعا. استمعنا إلى أغنياتٍ من الموروث البدوي الفلسطيني، وتحدّث إلينا عارفون من أهل النقب عن المكان راهنا وماضيا، وعن فنونه، وأبهجتنا دلال تغنّي من سميرة توفيق "بالله تصبّوا هالقهوة"، كما في أدائها أغنياتٍ بلا عدد في 13 حلقة، ننتظر مثلها في موسمٍ ثانٍ على شاشة "العربي 2".