مشاهد سينمائية على قارعة الطريق
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تُغمض عينيك لتنام، وأنت تتذكّر أن الشارع الذي تركته خلفك قبل قليل ما زال بكامل نشاطه. شارع ضيق لا يسع لعبور أكثر من سيارتين، واحدة للذهاب وأخرى مقابلها للإياب. وفي ذلك الحيز الذي تراه ضيقا، يمكن أن يتلاقى باص ركاب "تاتا" وشاحنة، أو شاحنتان متقابلتان وهما تتلافيان في لمح البصر أي اصطدام تراه، أنت الغريب على المكان، وشيكا. وبين تلك الموجة من الرشاقة، يمكن أن يعبر كذلك عربة ركشة (توك توك) وكلبة سائبة يتبعها جِراؤها، أو بقرة منسرحة، أو حتى إنسان يقطع الشارع. يمضي ذلك كله بسلاسة كاملة، وكأنها معزوفة ترتّب المصادفة إيقاعاتها. هدير البشر والدواب والسيارات لا يتوقف مثل النهر الذي يجري جريانا أزليا ولا ينتظر أحدا. ... هذا الشارع بين الجبال الخضراء لقرية مونار في ولاية كيرلا الهندية هو كذلك لا ينتظر أحدا، حين لا يتوقّف عن الحركة ليلا ونهارا.
أتساءل: ماذا لو زيدت عدة أمتار لتوسعة هذا الشارع الضيق؟ أن يأتي حلٌّ لمثل هذا النموذج الذي يراه العابر أول مرة على كيرلا خطيرا وواقعا تحت احتمال مفتوح لأي حادثة سير مؤجّلة. ولكن، لم يحدث شيءٌ مما يمكن توقّعه، لأن الأمر لا يعتمد فقط على مهارة السائقين الملحوظة، إنما على هدوء أعصابهم أيضا، ناهيك عن أن السرعة بطيئة في العادة، فالسائق يضع إحدى رجليه في حالة استعداد للضغط على مكابح السرعة ليتوقف في اللحظة المناسبة تماما. ربما لو كان الأمر متعلقا بشارع واسع، لرأينا أن السرعة ستزداد، ولتخلّى السائقون عن حذرهم، وبالتالي، انسحب، مع الوقت، جزء من مهارتهم، وصار الأمر عكس ما هو متوقع منه (من يعلم؟).
أتذكّر في رواية ميلان كونديرا "البطء"، وهي أفضل رواياته حسب وجهة نظري (هناك من يذهب إلى أنها روايته الوحيدة، كما الكاتب السوري خليل صويلح في كتابه التأملي الجميل "نزهة الغراب") أن الحكاية التقليدية كانت تتميز بالبطء. هذا المكوّن الإنساني الرائع مسخته الثورة الصناعية التي فرضت السرعة على كل شيء. السرعة التي طاولت حتى وجبات الطعام، بل ساعات نوم الإنسان وراحته. يرى كونديرا أن البطء كان أجمل شيء تخلّينا عنه في حياتنا القديمة.
كانت زيارتي الأولى إلى الهند وأنا أكتب هذه الأسطر، وكان في الرفقة الصديق محمود الريماوي، المرح في مختلف الأوقات، الذي يرى الحياة بعين الرضى، وهو يتمتع بعينيه ولا يفوّت أي تفصيل. وقد لاحظنا أن الطبقة البرجوازية في الهند تعيش حياة أوروبية، مع فارق التواضع والخفر الفطري الذي يتمتع به الهنود. ويمكن أن تستنتج أنه حتى الفقراء يعيشون بما لديهم بدون شكوى ووفق أنظمة دقيقة. حين كنتُ في كوتشي، وهي المدينة الأولى في ولاية كيرلا، دخلت إلى المستشفى الخاص "إستر" لإجراء فحوصاتٍ معمّقة، ورأيت هناك عددا وافرا من العُمانيين، كما رأيت عند الدخول علم عُمان يخفق على بوابة المستشفى. استوقفتني كذلك الدقّة والنظام، وتحدّث معظم الطاقم الطبي بالعربية، أو بالحدود التواصلية الدنيا للغة الضاد. وكذلك التعامل اللطيف للأطباء والممرّضين. وأظن أن سبب حديثهم بالعربية يعود إلى العُمانيين، حيث تجد أيضا من بين الأطباء من يتحدث بها، حين يسعفك بكلمة عربية إن تعذّر عليك فهم مصطلح طبي بالإنكليزية.
تمتاز المدن في ولاية كيرلا بالعمران العريق الذي لا بد أنه من ميراث الحقبة الاستعمارية، كما أن الطبيعة هنا تكاد تنطق بالخضرة الشاسعة، والمطر يزور الحياة بلا انقطاع بين فترة وأخرى. في قسم السرطان، سمعتُ أحد العُمانيين يذكر الكاتب العماني الصديق الراحل عبد العزيز الفارسي بالخير، وهو يُحادث زميلته العُمانية وكنت أسترق السمع. يقول: الله يرحم عبد العزيز الفارسي، لو كان حيا لكان أرشدني.
تمكن ملاحطة كذلك حرية اللبس، وهذا الانسجام العجيب بين مختلف التقاليد والاختيارات. التقيت في أحد الصباحات شابا هنديا (خمسينيا) مسلما سمح المحيا، يصبغ شاربه بالسواد، ويرتدي إزارا هنديا ناصع البياض تحت قميص فاتح اللون. دار بيننا حديثٌ عابر، لم يستمر أكثر من الفترة التي يستغرقها احتساء فنجان من القهوة، استطعت أن أفهم منه أنه بدأ عمله تاجر مكسّرات في دبي، ولديه حاليا تسعة أفرع في الهند. وما زال يسافر إلى دبي بين فترة وأخرى للإشراف على محلّه الرئيس هناك.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية