مشاهدات من غزّة
ما من مكانٍ مثل غزّة الصامدة التي نوجد فيها اليوم، يمكن أن يقدّم الأدلة القاطعة على الفشل الإسرائيلي في الجولة الأخيرة من معركة الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والعودة والكرامة. فبعد أحد عشر يوماً من الهجوم العسكري، بأحدث الطائرات الحربية والمدافع والدبابات والسفن العسكرية، فشلت حكومة إسرائيل في تحقيق أهدافها، وخرجت غزّة شامخة، ظافرة، صامدة، ومفعمة بالشعور بالعزيمة والكرامة.
وواصلت القدس والضفة الغربية وفلسطينيو الداخل في أراضي 1948 المعركة التي ارتدت طابع الانتفاضة الشعبية الموحّدة بصورة غير مسبوقة منذ زمن طويل، دفاعاً عن المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح وسلوان في وجه التطهير العرقي والتمييز العنصري.
حاول نتنياهو وجيشه أن يغطّوا فشلهم العسكري في تدمير الأنفاق، وإيقاف الصواريخ واغتيال قادة المقاومة، بشنّ حملةٍ انتقاميةٍ ضد المدنيين الفلسطينيين كانت حصيلتها حتى هذه اللحظة 255 شهيداً في قطاع غزة و31 شهيداً في القدس والضفة وشهيدين في الداخل الفلسطيني. كما شنّوا هجوماً مدمّراً على بيوت المدنيين والأبراج السكنية ومكاتب الإعلام والصحافة، وألحقوا الدمار بـ24 مركزاً صحياً وبمقر وزارة الصحة وستة مستشفيات، ودمروا مقار وزارتي العمل والرعاية الاجتماعية، وشبكات الكهرباء والمياه والمجاري وعشرات الشوارع والطرق الرئيسية.
واصلت القدس والضفة الغربية وفلسطينيو الداخل في أراضي 1948 المعركة التي ارتدت طابع الانتفاضة الشعبية الموحّدة بصورة غير مسبوقة منذ زمن طويل
استخدموا صواريخ وقذائف بالأطنان من دون سابق إنذار، وقصفوا بمدفعيتهم الهوجاء البيوت، وأطلقوا الرصاص الحي في القدس والضفة على المتظاهرين العزّل، بالإضافة إلى الرصاص المعدني والقنابل الصاعقة وقنابل الغاز. وبقيت غزّة صامدة، وبقيت القدس والضفة منتفضة، وفوجئ حكام إسرائيل بنهوضٍ لا سابق له من فلسطينيي يافا وحيفا وعكا والناصرة والجليل والمثلث والنقب، وفي مقدمتها اللدّ الباسلة.
زرتُ في مستشفى الشفاء الجرحى المصابين، وعدد كبير منهم يعاني من إصاباتٍ بالغة الخطورة. وتحدّثت مع ابن الطبيب الشهيد أيمن أبو عوف، وهو ما زال طفلاً، يقترب من سن الفتوّة، وشرح لي كيف قُصف بيتهم من دون إنذار بأربعة صواريخ إسرائيلية، الواحد تلو الآخر، فاستشهد والده الطبيب ووالدته وأخوه وأخته وجدّه وجدّته، ووجد نفسه وحيداً تحت ركام البيت يعاني كابوساً استمر عشر ساعات، حتى استطاعت فرق الإنقاذ أن تصل إليه. ورأينا كيف كافحت فرق الدفاع المدني بإمكاناتها المحدودة لإخراج المحاصرين من تحت الأنقاض، وأجهزتها محدودة للغاية وقديمة، أحدثها تسلمته عام 1996 (قبل ربع قرن)، ولا يسمح الحصار الإسرائيلي لها بالحصول على معدّات جديدة... لكم أن تتخيّلوا شعور رجل أو امرأة أو طفل محاصر تحت الأنقاض يصرخ طالباً العون والإنقاذ، والمسعفون عاجزون عن الوصول إليه.
التقيت في دير البلح بجدّ الطفلة الشهيدة إيمان حجّو، التي استشهدت برصاص الجيش الإسرائيلي عام 2001، ولم يتجاوز عمرها حينها الشهرين، وانتشرت صورتها بالقذيفة التي اخترقت صدرها. وبعد عشرين عاماً، عاش هذا الجدّ ليرى بيته يُقصف ويدمر دماراً كاملاً. والتقيت ابن شهيد في مخيم المغازي، استشهد والده وعمره أربعة أعوام خلال الانتفاضة الثانية. وعاش مع والدته، وجمع من تعبها وعرق جبينه ما يكفي لبناء شقة متواضعة، كان ينوي الزواج فيها، لتأتي الطائرات الإسرائيلية وتدمرها عن بكرة أبيها، وتطيح أحلامه في بناء عائلة.
حوالي مائة ألف مواطن أجبروا على مغادرة بيوتهم بسبب القصف الإسرائيلي، ولجأوا إلى مدارس وكالة الغوث
255 شهيداً حصيلة العدوان الهمجي في غزّة، ومن ضمنهم 67 طفلاً و40 امرأة. كما أبادت طائرات إسرائيل وصواريخها 12 عائلة وشطبتها من السجل المدني. وأضاف إليهم الاحتلال 30 شهيداً في القدس والضفة، وشهيدين في الداخل أحدهم من مدينة اللدّ والآخر من أم الفحم. وأضيف لهم اليوم، وأنا أكتب هذا المقال، الشهيد زكريا حمايل في بلدة بيتا قرب نابلس، أصابه الجيش الإسرائيلي بالرصاص الحيّ وهو يتظاهر (الجمعة 28 مايو/ أيار). وبالإضافة إلى هذا كلّه أصاب الاحتلال 1900 جريح في غزة و3100 في القدس والضفة، ولم ينكسر شعب فلسطين.
أما بلديات القطاع، وخصوصاً بلدية غزّة، فعملت على مدار الساعة، وتحت القصف، على إصلاح كلّ طريق نسفتها طائرات الاحتلال التي كانت تُحدث فيها حفراً يصل عمقها إلى 15 متراً. ومع توقف القصف، لم يبقَ طريق واحد لم يتم إصلاحه ليصبح صالحاً للسير... وقد عالج أطباء المستشفيات الفلسطينيين بمهارة فائقة مئات الجرحى، وأجروا آلاف العمليات تحت القصف، ومن دون انتظام للكهرباء، وأنقذوا حياتهم، على الرغم من نقص الأدوية والمعدّات. ومع توقف القصف، انتشر في شوارع القطاع آلاف المتطوّعين الشباب يزيلون الركام وينظفون الشوارع، ويزورون البيوت المصابة، ويمدّون لأهلها العون والمساعدة. وعندما قصفت طائرات الاحتلال مركز فحص كورونا الوحيد في قطاع غزة، تم نقل خدماته خلال ساعات إلى عيادات جمعية الإغاثة الطبية، وواصلت فرق رعاية مرضى كورونا عملها.
255 شهيداً حصيلة العدوان الهمجي في غزّة، منهم 67 طفلاً و40 امرأة، وأبادت طائرات إسرائيل وصواريخها 12 عائلة
حوالي مائة ألف مواطن أجبروا على مغادرة بيوتهم بسبب القصف الإسرائيلي، ولجأوا إلى مدارس وكالة الغوث (أونروا)، فاندفعت المؤسّسات والجمعيات لإسناد احتياجاتهم. وعندما توقف إطلاق النار في الساعة الثانية فجراً، خرج قطاع غزّة عن بكرة أبيه، وكلّ مدن الضفة الغربية والقدس وأهل الداخل، في مسيرات شعبية، تحتفل، على الرغم من عظمة التضحيات، بالنصر على الاحتلال ووحشيته.
نظرت، ظهر اليوم، عبر نافذة غرفتي في غزّة، ورأيت مئات الشباب يسبحون في بحر غزّة وآلاف الناس يروّحون عن أنفسهم على شاطئ البحر. وانتشرت صور المقاومين الذين يتحدّون الاحتلال بالظهور علناً. ورأيت وجوه عشرات الصحافيين الأجانب مليئةً بالدهشة مما سمعوه من سكان غزّة من شعور بالعزيمة والكرامة والفخر، بعد كلّ ما لمسوا آثاره من معاناة، ولسان حالهم يقول: هذا شعب لم ولن يُهزم، ولا يمكن إلّا أن ينتصر.