مشاريع التغيير بين الخرائط الفكرية والنماذج الإصلاحية

08 يوليو 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

علاقة الخرائط الفكرية والنماذج الإصلاحية والمشاريع الحضارية بعمليات التغيير والنهوض معقدة ومركبة؛ لها أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، ومن ثم فإن من أهم إشكالات الإصلاح وعملياته هي العلاقة بين الفكري والسياسي. وفي هذا السياق، كان للمفكرين، منذ قديم الزمان، حديث مهم يرتبط بعلاقة المفكّر بعالم السياسة الممتد لبلوغ الأمر الذي يتعلق بالمجتمع المثالي أو الرشيد. وإذا كان أفق الإصلاح، ضمن مشروعات الإصلاح المختلفة، لا بد أن يكون إنسانيا وحضاريا وربما في بعض تضميناته كونيا.

ومن الأهمية بمكان النظر إلى أن الاستبداد، كما هو صناعة، فإن الإصلاح كذلك صناعة، ويقوم على أركان عدة تتفاعل في بنائه وبنيته، في سيرته ومسيرته، في تحولاته وسيرورته. ومن هنا علينا أن نؤكّد على أنه ليس فقط النماذج الإصلاحية في مواجهة نماذج الاستبداد والإفساد، ولكن علينا كذلك أن نؤكّد على إمكانية انحراف عملية الإصلاح، فإذا كان الفاسد يريد، في سعيه، أن يفسد كل شيء ويهلك الحرث والنسل (التنمية والإنسان)، فإن القائم بعملية الإصلاح وجب أن ينشغل بأمرين: الدولة والمجتمع، والعلاقة في ما بينهما فيُصلح أمرهما، وعلى نموذج الإصلاح ذاته حتى لا يكسد أو يفسُد، أن يتبصّر معالم النموذج الفرعوني في العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، وما قدّمه هذا النموذج من طاقات إفسادٍ استطاعت أن تغتصب كل حقائق الإصلاح ومفرداته من الرشاد ومن الطريقة المثلى ومن إخراجهم عن جادّة الصواب وما اعتادوا عليه.

ولكن في تركيزنا على ذلك النموذج الفرعوني يجب ألا يلفتنا عن نموذج السامري في انحراف العملية الإصلاحية، ضمن هذا التكامل تأتي عملية الإصلاح بوصفها عملية حضارية وتربوية شاملة، تزكّي هذا النظر. ومن ثم لا بد أن يكون لدى المجتمع القدرات والأجهزة القادرة على كشف كل غطاء زائف حول عملية استبداد السلطة وقابليات الاستخفاف الفرعوني، فعلاقات الاستبداد لا يمكن أن تنتج من خير، ولكنه، في حقيقة الأمر، نوع إن أتى بشيءٍ في الظاهر، وببادي الرأي، يبدو متعلقا (بتنمية الناس؟!) فإن ظاهره الرحمة، وباطنه من قبلهم العذاب، وهي نماذج تحرّك ضرورة الكشف عن كل ما يتعلق بالإصلاح الضالّ أو الإصلاح معكوسا، أو الإصلاح الزائف {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].

ارتبط مفهوم الإصلاح بالخارج في خطابات متعدّدة أكثر من ارتباطه بالداخل

 

ومن ثم فإعادة الاعتبار لمفهوم الإصلاح تتم عبر ثلاثة أبعاد: أولًا، المفهوم الغربي للإصلاح، الذي قد يشوّش على الفهم الشامل والمتكامل لمفهوم الإصلاح، فنحن لا نفهم الإصلاح باعتباره reform، أي إعادة التشكل والتشكيل، فالإصلاح الذي نقصد ونسعى إليه يتكون من عمليات تجديدية بأفكار نهضوية وإمكانات تشكّل قدرات تفعيل على طريق الفاعلية.

ثانيًا. ارتبط مفهوم الإصلاح بالخارج في خطابات متعدّدة أكثر من ارتباطه بالداخل، ومن ثم نؤكّد على داخلية الإصلاح، إمكانات وقدرات. أما الخارج فهو ضمن الوسط والسياقات التي تحيط بعملية الإصلاح ضمن اعتباراتٍ أخرى، يجب أخذها في الحسبان.

ثالثًا. ترتبط عملية الإصلاح بجملة من المفاهيم الأساسية، مثل النهوض، والتجديد، والإحياء، وبناء الحضارة، بالإضافة إلى المتطلّبات الأساسية الفكرية والثقافية للعملية الإصلاحية، وكذا الجانبين، القيمي والتربوي، في العملية الإصلاحية. ومن ثم، ليس من المصادفات ذلك الارتباط الكائن بين مفهومي الإصلاح والسياسة، فمفهوم السياسة مسكون بمعانيه الإصلاحية قياما على الأمر بما يصلحه.

رابعا. من الأهمية بمكان تحرير العلاقة بين الإصلاح والسياسة، خصوصا في ظل تشابكها المعقد، ومن ثم وجب تحديد المتطلبات الفكرية والثقافية، بما يجعلنا نتحفّظ على حصر الخيارات الإصلاحية بين أن تكون من أعلى أو من أسفل، ولكن علينا أن نركّز على الشروط الفكرية والثقافية لعملية الإصلاح.

على نظريات الإصلاح الحضارية التي تربط الفرد والجماعات والمؤسسات بمشاريع الأمة أن تحسب لعملية التغيير حسابها

في ضوء تلك الإشارات والتنبيهات، من الأمور التي يجب التوقف عندها في هذا المقام ونحن بصدد البحث في المشاريع الحضارية للنهوض والتغيير والوقوف على النماذج الإصلاحية؛ التعرّف على الخرائط الذهنية والإدراكية، والخرائط العقلية وتوجهاتها وتصنيفاتها، والجمع بين ذلك في إطار امتداد أوسع، تمكن تسميته الخرائط المعرفية، بما يمكن أن تشتمل عليه من خرائط فكرية وثقافية، وخرائط المعمار الفكري المرتبط بالسياقات الحضارية (الخرائط الحضارية) والمدى الذي تعكسه، في سياق ارتباطها بنماذج معرفية، وهو أمر يولد عناصر الشاكلة الحضارية، من دون إهمال حالة التفاعل الحضاري ومقتضياتها، وحال التواصل الحضاري وتأثيراتها، والخرائط أيا كان وضعها (الذهنية، الإدراكية، والمعرفية، والعقلية، والثقافية، والفكرية، والحضارية، والنماذج المعرفية.. ) تعتمد على المعلومات عن الموضوع في شكل تخطيطات، تنظم عالم الأفكار وتصنّفه، فترى التضاريس في عالم الأفكار في كليتها، بما يليق بتوضيح الروابط والعلاقات والصلات بين عالم الأفكار الجزئية وخريطة الرؤية الكلية. وإذا كانت أول أهداف هذه الخرائط الوعي والمعرفة، فإنها كذلك تتواصل مع استشراف المستقبل وإمكانات التعامل معه.

الإصلاح كذلك صناعة، ويقوم على أركان عدة تتفاعل في بنائه وبنيته، في سيرته ومسيرته، في تحولاته وسيرورته

الخرائط الفكرية المتعلقة بالمشاريع الإصلاحية وتصوّرها إنما يعد الخطوة الأولى في رصد هذه المشاريع، سواء تمثل اجتهادات فكرية أو حتى تتبنّاها دول ضمن مشاريع تتعلق بالتغيير في المنطقة وأهداف تلك الدول في تحقيق مصالحها، ربما سيكون علينا أن نرصد تلك المشاريع الفكرية أولا، سواء مثلت جهدا فكريا فرديا من خلال مفكّرين حاولوا تشخيص أزمة الأمة واقتراح التصورات المتعلقة بمواجهة تحدّيات الأمة في سياق تصور لمشروع النهوض والتغيير، وكذلك فإن بعض هذه المشروعات يمكن أن تمثل مدارس فكرية حملت بعض هذه المشاريع في تراكم امتد فترة ضمن إسهامات متتابعة ومتراكمة، تبنّت مشاريع التغيير وفقا لتشخيصها لأزمة الأمة والتحدّيات التي تواجهها.

كل تلك الاجتهادات التي تمثل نماذج إصلاحية من المهم أن نرصد خرائطها التي توجه النظر إلى تمايز تلك المدارس والاتجاهات والمشاريع الفكرية وما تتبنّاه من أفكار أساسية تشكل تصورات لمسألة التغيير والهدف الإصلاحي منها، وسنحاول مع رصد خرائط تلك المشاريع أن نقدّم مفاتيح كل مشروع فكري، حتى يمكننا، في النهاية، تصوّر عملية التغيير والتحدّيات التي تجابهها، والاستجابات التي تقدّمها تلك المشاريع، مع التأكيد على أن الإنسان يجب ألا تنفكّ نشاطاته وفاعلياته عن الإصلاح أبدا، بالاعتبار الذي يؤكّد على تنمية أجهزة المجتمع الإصلاحية وقدراتها في ترشيد عملية الإصلاح الشاملة والحضارية واستمرارها، مهما قلت هذه العمليات، ومهما تصوّر هؤلاء المهتمون بعملية الإصلاح أن ذلك قدر يسير من عمل كبير وخطير. ومن هنا على نظريات الإصلاح الحضارية التي تربط الفرد والجماعات والمؤسسات بمشاريع الأمة أن تحسب لعملية التغيير حسابها، متفهمة شروطها واعيةَ بسننها؛ متبصرّة مسالك سعيها بلوغا إلى أهدافها.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".