مسلسلات رمضان والهويّات الجامعة... في الثّقافة السّياسية الغائبة
لا يمرُّ علينا رمضان، في كلّ عام، إلا ونزداد فيه تفرّقا على التّفرُّق الذي تثيره المسائل السّياسية فيما بيننا، في العالم العربي، وهذه ظاهرة لا تمسّ بلدا دون آخر، بل تجدها ملحوظةً في طول الفضاء العربي وعرضه. ويا ليتها كانت قضايا عابرة تلك التّي تثير النُّفوس والعواطف وترتفع بها أصوات المنتقدين، بل يتعدّى الأمر إلى المساس بالثوابت التّاريخية والمبادئ، الرموز والشخصيات المُجمع عليها، وهي، في محصّلتها، تشكّل الأمور الجامعة فيما بين كل فئات المجتمع قبل أن تطرأ عليها عوامل التناول العابر والسّطحي لتُثار، على الملأ، في أعمال درامية، ترتكز على الخيال أكثر ممّا تثير الواقع، ولكنها تترك آثارها المدمّرة على المجتمعات العربية.
يتعلّق الأمر، هنا، بظاهرتيْن تحتاج كلّ منهما إلى التمحيص، وصولاً إلى قضية محورية لم يجر الاتفاق عليها في المجتمعات العربية، وهي الهويات الجامعة أو الخطوط الحمراء التي لا يجب أن تكون موضعاً للإثارة، بما يجعلها قضايا خلافية، كونها تشكّل الإسمنت الذي يقوّي التوافق المجتمعي والتناسق الاجتماعي، في كل الفضاءات العربية.
تتصل الظّاهرة الأولى بغياب الثّقافة السّياسية التّي تكون حاكمة لقضايا مجتمعية تتعلّق بمصالح كلّ المجتمع، وليس بفئةٍ دون أخرى، إذ يقتضي التّعايش التّوافق، وهو ما يجعل منها إشكالياتٍ محوريّة تنتمي إلى تلك القضايا المحورية التي عليها مدار التّوافق المجتمعي أي بين كلّ فئات المجتمع، على أن لا تُثار لا في أعمال أدبية ولا في أعمال درامية، بل تكون مثار تقديس مجتمعي، وتكون المنطلق لاجتماع الكلمة وتوحيد الرُّؤى لمواجهة تحدّيات تحتمل تعدُّد الرُّؤى وتكون موضوعا لخلافات سياسية، على غرار المسائل الاقتصادية، السّياسات العامّة الخاصّة بالتّربية، التّعليم العالي، البحث العلمي، الصّحّة والثّقافة وغيرها ممّا تتعدّد الرُّؤى بشأنها، وتحتاج إلى أخذ وردّ بين كل فئات المجتمع لاختيار الأصلح والأجدى بالاتباع والتّبنّي لما فيه صلاح المجتمع.
قد يتساءل المرء كيف لمسائل رمزية، تاريخية أو لها صلة بشخصياتٍ مُجمع على احترامها، داخل المجتمعات، أن تكون في مصافّ الثّقافة السّياسية ليكون الجواب بأنّ التّنشئة السّياسية، أي التّربية على تقديس تلك المعطيات الجامعة بين فئات المجتمع يجب أن ترافق الناس منذ صغرهم، وأن تكون حاضرة في كلّ النّقاشات الاجتماعية لتبلغ حدّ التّوافق المجتمعي، ولكيلا تتم إثارتها إلا في إطار خطوط حمراء يتضمّنها النّصُّ القانوني الأعلى في الدّولة، وهو الدُّستور، حيث يتمّ رفعها إلى مصاف القضايا المتّفق عليها، ولا يتمُّ النّظر إليها إلا على أنّها مقدّسة يمنع، على الكلّ، وبأيّ شكل كان، أن تُثار، كونها من مقدّسات الأمّة.
في كلّ مجتمع هويات جامعة وأخرى فرعية تتعلّق بالخصوصيات الثّقافية والتّمايزات المناطقية
أمّا الظاهرة الأخرى فهي تلك المتّصلة بجدليّة الخيال والواقع أي إثارة أنّ الأعمال الدرامية، بما أنّها مخيالٌ لا يمتُّ بصلة إلى الواقع، يمكنه أن يناقش تلك المسائل ويطرحها، وكأنّها مسائل خلافية، سواء بصورة علانية أو من خلال الإشارات المبطّنة في لقطات أو مشاهد درامية، كما أنّ تلك الإثارة قد تتمُّ من خلال أعمال أدبية على غرار الرّوايات أو من خلال المنصّات الافتراضية، الآن، في عصر تكنولوجيا الاتّصال، وهي كلُّها مقاربات للابتعاد عن المسألة الأولى المشار إليها، أعلاه، إذ إنّها، حتّى تتحصّل على أعلى نسبة من المشاهدة، بالنّسبة للأعمال الدرامية، بصفة خاصّة، وبتحيُّنها فرصة ذروة المشاهدة التّي يضمنها رمضان، الذّي أضحى، رغم قدسيّته، محطّ تلك الطروحات المثيرة للجدل، تحتاج إلى هامش المخيال الدّرامي قصداً، إذ إنّها تريد المساس بالقضايا التّوافقية وتحوُّلها إلى مجرّد مسائل أخلاقية يقبلها بعضهم ويرفضها الآخرون من منطلق خرافة الحرّيّة الكاملة التّي دونها تلك الخطوط الحمراء التّي يجب أن تمنع وتردع عن تناول المقدّس من القضايا وإثارتها، وكأنّها ليست كذلك، بقصد تقسيم المجتمع وتحويل الحرّيّة إلى عبث أو ترف، بدلا من أن تكون هي الأصل. ولكن في حدود المحظور مجتمعياً، أي في حدود ما تسمح به الثّقافة السّياسية المتوافق عليها.
بالإشارة إلى الهويات الجامعة، للقضية، هنا، صلة بما يتّفق المجتمع على أنّه الجامع بين كل فئات المجتمع، ولا يتمّ، أبدا، أن تكون محلّ نقاش لتعديلها أو تحويلها إلى مادّة يلوكها الخيال الدّرامي أو تتضمّنها روايات أدبية، ولا مقالات صحافية أو افتتاحيات، لكن ثمّة خطأ يقع فيه الفضاء العربي، كونه فضاء مغلقاً ولا يسمح بالنّقاش الحــــرّ، ولا بتعدّد الرؤى، وهو الخطأ المتصل بالهويات الفرعية، وكيف يتم احترامها من دون أن تمسّ الهويات الجامعة.
في كلّ مجتمع هويات جامعة وأخرى فرعية تتعلّق بالخصوصيات الثّقافية والتّمايزات المناطقية من فلكلور (فن شعبي محلي)، لهجات محلية، طبوع موسيقية، لباس تقليدي وأطباق إضافة إلى الشّعر، القصص والمخيال الشّعبي أو ما نطلق عليه الحكاوى، وبلغة "اليونسكو" التُّراث المادي واللامادي لمناطق بعينها تزخر بها الثّقافات المحلّية وتنافح عنها.
أضحى العالم العربي ضحيّة لعدم التّمييز بين ما هو متوافق عليه، ضروري وحتمي، ويكون في مصافّ الهويات الجامعة، وما هو محلي وجهوي
تتمثّل الإشكاليّة، في عالمنا العربي، في أنّ إثارة هذه المسائل، أي الهويّات الفرعية، بمرجعية غلق المجال الإعلامي وتقليص مجالات التّعبير بشأنها، يوجد الخلط بين هذا الجزء من الهويّات. وبسبب الكبت المجتمعي، أضحى العالم العربي ضحيّة لعدم التّمييز بين ما هو متوافق عليه، ضروري وحتمي، ويكون في مصافّ الهويات الجامعة، وما هو محلي وجهوي، وبين تلك الهويّات، الجامعة والفرعية، فضاء الحرّيّة للقضايا التّي يمكن إثارتها، كونها قضايا تهمُّ كل فئات المجتمع، لكنها تكون بعيداً عن المساس بمنظومة تلك الهويّات بقسميها، حتّى لا تثير ما نراه من خلاف في الشّهر الفضيل بشأن ما تعرضه القنوات، ويتضمّن مساسا بإشكالات متوافق عليها وطنياً ومحلياً.
تبقى مسألة مهمّة تدخل في إطار مهمّات الدّولة الحصرية، أي المنصوص عليها في الدساتير، وهي حماية المجتمع من كلّ التّهديدات، ومنها التّي تمسُّ منظومة الهويات، ويكون تنظيم تلك المهمّة من خلال سلطات ضبط الإنتاج السّمعي والبصري، وهو ضبطٌ قبلي أي بدفتر شروط (ميثاق أخلاقي وعملي للأعمال الفنية والدرامية، أو خاص بالمحتويات الافتراضية) تعرض عليه الأعمال قبل تصويرها، وهو ليس من قبيل مراقبة الأعمال أو ما يعرف بمقصّ الرّقيب، وليس من قبيل المساس بحرية الإبداع، أياً كان شكلُه، بل هو مراقبة قبلية لاحترام شروط تضمين العمل الابتعاد، كل الابتعاد، عن تلك الهويات، إضافة إلى إثارة القضايا بما يحافظ على منظومة الأخلاق وقدسيّة الشهر الفضيل، بل يمكن لتلك الرقابة أن تمنع أعمالاً تتضمّن مغالطاتٍ تاريخية أو خلطاً بين الوقائع التاريخية والواقع المعاش حالياً، على غرار ما يتضمّنه مسلسل "الحشّاشين"، الذّي تعرضه قنوات كثيرة، ويخلط بين قصّة القرامطة وإشكالية الولاء للمرشد أو القائد.
إذا فهمنا إشكاليات الهويّات، الجامعة والفرعية، وتمّ رفعها إلى مصاف الثّقافة السّياسية، وإذا أحطنا تلك الهويّات بالتّقديس العملي، أي بسياسة عامّة للرّقابة القبلية، من خلال سلطات ضبط، نكون قد ضمنّا خلافات طبيعية داخل المجتمعات العربيّة وضمنّا حرّية الإبداع والتّعبير، لكن في إطار التوافق المجتمعي التام، وهي سبيل التّوجُّه نحو بناء التناسق الاجتماعي الضروري للتحول والتّغيير، مستقبلا.