مسارات حرب مُستدامة
لعلّ المفاجأة الكُبرى التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، وما تلاها من صمود أسطوري للمقاومة في غزّة في وجه حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال على الشعب الفلسطيني، أنّها جعلت كُتّاباً ومُحلّلين سياسيين وعسكريين، بدافعٍ من تأييد المقاومة والإشادة ببطولاتها وصمودها (وهو حقّ وواجب)، يندفعون في تحليلاتهم وكتاباتهم نحو الشعبوية، وإلى إرضاء الجمهور وإثارة حماسته، فشاعت تحليلات تفتقر إلى الدقّة والموضوعية عن مدّة الحرب ونطاقها، وتبشّر بانتصارٍ سريعٍ للمقاومة، وبانهيارٍ عاجلٍ للجيش الإسرائيلي وهزيمته، والتشكيك في قدرته على القتال في أكثر من جبهة في وقت واحد، والمبالغة في تقدير حجم انهيار الاقتصاد الإسرائيلي، وعدم تحمّله حرباً طويلةً، وتخيّل المجتمع الإسرائيلي مُفكَّكَاً ومنهاراً في المدى القصير، والنظر إلى التظاهرات، التي تنادي بأولوية إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، مناهضةً للحرب، وكأنّ ثمّة انقساماً بشأن الحرب واستمرارها، في حين أنّ حدودها لا تتعدّى المطالبة بوقفٍ مؤقّتٍ، ثمّ العودة إلى القتال.
في ظلّ توافق المجتمع الصهيوني ووحدة طيفه السياسي بشأن حرب الإبادة وأهدافها، هذه الصورة الوردية التي تُرسَم للجمهور، تُحمّل المقاومة الصامدة، والمستمرّة، أكثر ممّا تحتمل، ولا تُقدِّر حجمَ المعاناة الإنسانية الكبيرة في قطاع غزّة، وتَغفَل عن تأثير ذلك في الحاضنة الشعبية، كما تتجاهل ما يُخطِّط له العدوُّ من سيطرة دائمة على قطاع غزّة أو في أجزاء كبيرةٍ منه، وما يُخطَّط له (بمشاركة الولايات المتّحدة وبعض النظام العربي) لما يُدعَى بـ"اليوم التالي" للحرب، من تموضع قواتٍ عربيةٍ ودوليةٍ لنزع سلاح المقاومة، وتسهيل عمليات تهجير السكّان، واستئناف عملية التطبيع التي توقّفت بفعل "الطوفان"، إذ إنّ رؤية جانب واحد من الصورة العامة، والمتمثّل بصمود المقاومة وعودة القضية الفلسطينية إلى مسرح الأحداث يجب ألّا يمنعنا من رؤية الأخطار المُحدِقة، والبحث عن أساليبَ مواجهتها وسُبلِ التصدّي لها وإفشالها.
ما زالت السلطة الفلسطينية تتصرّف كأنّ هذه الحرب الممتدّة من غزّة إلى الضفّة الغربية لا تعنيها
تقترب حرب الإبادة الجماعية التي تُشنّ على الشعب الفلسطيني من شهرها الثاني عشر، بلا بوادر تدّل على وجود أفقٍ لنهاية قريبة لها، بل تشير الدلائل كلّها إلى استمرار الحصار والتجويع، وتموضع الجيش الإسرائيلي في قواعدَ ومعسكراتٍ ونقاط ارتكاز ثابتة في امتداد محورَي نتساريم وصلاح الدين، وفي امتداد شريط عازل أُنجز بموازاة الحدود. يتيح هذا التمركز للجيش الإسرائيلي تقسيم قطاع غزّة بين مناطق منفصلة، وتقليل حجم قواته الموجودة فيه، ونقلها إلى جبهات أخرى في الضفّة الغربية ولبنان، في وقت يتابع فيه عملياته العسكرية ضدّ المقاومة على مستوى لا يتطلّب حشداً كبيراً للقوات، ويتراوح ما بين سَرِيَّة ولواء، مستعيناً بسلاح الجو والمدفعية والمعلومات الاستخباراتية، من غير أن يتمركز داخل المناطق المأهولة بالسكّان، التي ستبقى عُرضَة للقصف والتدمير الممنهج، وأوامر النزوح والإخلاء والحصار والتجويع، مع انخفاضٍ محدودٍ في العدد اليومي للشهداء والجرحى، قياساً بالأعداد السابقة، وزيادة المعاناة الإنسانية. لكنّ المقاومة ستبقى قادرةً على استنزافه، ولن تتوقّف مع استمرار الاحتلال، وقد نشهد تحوّلاً في المواقع العسكرية التي أُنشئت حديثاً، ولا تزال تتوسّع يومياً في محور نتساريم، مستوطناتٍ دائمةً.
ومع اقترابنا من دخول العام الثاني لـ"طوفان الأقصى"، تتحوّل جبهة غزّة تدريجياً جبهةً ثانويةً، وفق الخطّة الإسرائيلية، وتشتعل جبهات أخرى في الضفّة الغربية التي تواجه أخطار الضمّ والتهجير، وتحويلها كانتوناتٍ معزولةً، وجبهة لبنان التي يزداد احتمال دخولها حرباً شاملةً كلّ يوم، وهي حرب ستكون طويلةً وقاسيةً على الطرفَين، ويدعو إليها أنصار الحكومة الإسرائيلية والمعارضة، ويُؤيّدها الجيش، وما يُؤخِّر اندلاعها ضغط الإدارة الأميركية، التي لا تريد امتداداً للحرب خلال فترة الانتخابات الرئاسية، وسيقتصر دورها (إذا نشبت الحرب) على مواصلة دعم إسرائيل، والحرص على عدم تحوّلها حرباً إقليميةً، وستعدّ ذلك إنجازاً لها.
لا تزال الولايات المتّحدة شريكةً في حرب الإبادة، ولا ينبغي توقّع أيّ تغيّر في موقفها في المدى القريب
ما زالت السلطة الفلسطينية تتصرّف كأنّ هذه الحرب الممتدّة من غزّة إلى الضفّة الغربية لا تعنيها، وكأنّها تخشى إن فعلت شيئاً أن تفقد دوراً تأْمل أن يُرسم لها في ما يُخطَّط له في "اليوم التالي" لما بعد الحرب، من دون أن تدرك أنّ بقاءها في الضفّة أو عودتها إلى غزّة لن يتحقّق إلّا عبر بوابة الوحدة الوطنية، وتشكيل قيادة وطنية موحّدة، وإعادة بناء منظّمة التحرير، والتخلّص من التزامات اتّفاق أوسلو وشروط الرباعية الدولية، وليس عبر البوابة الأميركية والإسرائيلية، أو عبر مناوراتٍ خاليةٍ من المضمون، مثل الحديث عن ذهاب الرئيس محمود عبّاس إلى غزّة بهدف إلهاء الرأي العام أو التذكير بوجوده، إذا بدأ الحديث عن ترتيبات مستقبلية، واستعداده للانخراط فيها.
لا تزال الولايات المتّحدة شريكةً في حرب الإبادة، ولا ينبغي توقّع أيّ تغيّر في موقفها في المدى القريب، بعيداً عمّا يمكن أن تُسفر عنه الانتخابات الأميركية، فالحزبان الديمقراطي والجمهوري يقفان على الأرضية ذاتها المؤيّدة للكيان الصهيوني. وفي المديَين المتوسّط والبعيد، ينبغي ملاحظة تزايد تأييد قطاعات واسعة من الشباب الأميركي، بمن فيهم اليهود الأميركيون، حقوق الشعب الفلسطيني، وما زال الموقف العربي الرسمي عاجزاً، أو غير مقتنع بممارسة الحدّ الأدنى من الضغط على الإدارة الأميركية لتعديل موقفها. وقد أثبتت حرب الإبادة الجماعية أنّ إسرائيل دولةٌ فاشلةٌ وهشّةٌ على الصعيدَين الداخلي والخارجي، وأنّ شريان حياتها مُرتبِط بالولايات المتّحدة أساساً، والغرب عموماً، ومن هنا تأتي أهمّية العمل الدؤوب في هذه الساحات لعزل إسرائيل، وفضح ممارساتها وجرائمها، واعتبارها قوّةً محتلّةً، ودولةَ أبارتهايد.
مع اقترابنا من دخول العام الثاني لـ"طوفان الأقصى"، تتحوّل جبهة غزّة تدريجياً جبهةً ثانويةً، وفق الخطّة الإسرائيلية
ولعلّ دونالد ترامب قد كذب وصدق خلال مناظرته مع كامالا هاريس؛ كذب حين قال عنها إنّها معادية لإسرائيل، وصدق حين قال (على افتراض عدائها المزعوم) إنّ إسرائيل ستزول خلال عامين إن نجت هاريس. إذ إنّ ثمّة وعياً متزايداً وأهمية كبرى للعمل على تغير الموقف الأميركي والغربي، وهو ما يمكن تحقيقه في المدى المتوسّط، وعزل الكيان الصهيوني عالمياً، ومحاسبته على جرائمه. الأمر الذي سيُؤدّي، بالإضافة إلى التداعيات الداخلية التي تنهش في المجتمع الصهيوني الموحّد حالياً ضمن لوثة الحرب التي تجتاحه، إلى صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، واستمرار مقاومته بأشكالها المختلفة والمتعدّدة، والتي ستحدّد في كلّ مرحلة الشكل الرئيس لهذه المقاومة.
على الرغم من جميع الصعوبات التي نواجهها، ومحاولات "دعشنة" المقاومة ووصمها بالإرهاب، والمعاناة الإنسانية الهائلة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، فإنّنا نقترب من لحظة التغيير وعتبته، سواء أكان ذلك في فلسطين، أو على مستوى الشارع العربي، أو على المستوى الدولي، وهو ما يحتاج إلى توحيد الصفوف ورصّها، والإيمان بحتمية النصر في المديَين المتوسّط والطويل، إذ إنّ "اليوم التالي" فلسطينياً، لن يكون يوم تصفية القضية الفلسطينية أو استمرار إدارة الصراع وزرع الوهم، بل هو يوم استمرار النضال من أجل تحقيق الحقوق الفلسطينية.