مسؤول بعثي .. يا ساتر

10 ابريل 2022

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

يعرف كاتبُ هذه الأسطر، ويعرف أقرانُه الذين عاشوا أزيد من نصف قرن في ظل حكم حزب البعث، أن انتقاء المسؤولين في سورية يجري بعناية فائقة. يصفُ أهل بلدتي معرّة مصرين المسؤولين البعثيين، من باب التهكّم، بأنهم "منتقون على الصينية"... وهذا مصطلح نسائي صرف؛ فسيدة المنزل العجوز، عندما تقرّر طبخ المجدّرة، تضع البرغل أو العدس في صينيةٍ مستديرة، وتنقّيه من البحص والزؤان والقشّ، بصحبة جاراتها اللواتي يأتين لمساعدتها. وفي الأثناء، يمارسن النميمة على كنّاتهن اللواتي يستغللن حُب أزواجهن لهن ويكِدن لحمواتهن الطيبات... والعجائز، أنفسهن، إذا أردن الاستهزاء بشخص يلقي الكلام على عواهنه يقلن: لا يوجد أجمل منه وهو ساكت، فإذا حكى يا ساتر... والأمثلة كثيرة، فلا يمكن اعتبار وزير التجارة الداخلية، عمرو سالم، الذي تحدّث عن رغبة ألمانيا في الاستفادة من التقدّم التكنولوجي المتحقق في ظلّ قيادة بشار الأسد حالةً شاذة.

في مقابلة MTV مع الفنان الراحل صباح فخري، عرضت عليه المذيعة مادّة مسجّلة على فيديو، واشترطت أن يقول رأيه بصراحة، فقال: نحن في حلب نقول رأينا بطريقة "بُعْ جَمَل" أي من دون تحفظ أو مواربة. والحقيقة أنّ كلام المسؤولين البعثيين، معظمه: بُعْ جمل. ذات سنة، أقام المركز الثقافي في إدلب مسابقة أدبية للقصة القصيرة، فاز فيها الأديب تاج الدين الموسى عن قصة عنوانها "الأرض" تدور أحداثها خلال بضع السنوات الأخيرة من عقد الخمسينات. كان عندنا في إدلب محافظ لا يوجد من يدانيه في الوسامة عندما يكون ساكتاً... أصغى إلى قصة تاج الدين بتمعّن، ولم يلتزم بشرط المحافظة على الوسامة، وأدلى برأيه قائلاً لتاج: قصتك حلوة يا أستاذ... لكن ليش ما قَوَّمت الثورة؟! القصد أنّ الكاتب، لو استمرّ في سرد أحداثه حتى الثامن من مارس/ آذار 1963، يصبح في مقدوره أن يتحدّث عن الانقلاب البعثي الناصري الذي أسموه، زوراً وبهتاناً، ثورة... ولو أنّ تاج الدين فعل ذلك، لسأله ذلك المحافظ ذو الوسامة المتناقصة: ليش ما فجّرت الحركة التصحيحية المباركة؟

دعا المركز الثقافي في مدينة الرّقة، التي كان البعثيون يحتلونها قبل "داعش" الفنان الراحل عبد القادر عبدللي للمشاركة في معرض يضم أعمالاً تشكيلية من مختلف المحافظات... الأمر الطبيعي في الأنظمة المخابراتية، وبالأخص سورية والعراق، أن تخضع اللوحات لرقابةٍ مسبقة... وما حصل أنّ الرفيق البعثي الذي كان يقرّر صلاحية اللوحات للعرض رفض لوحات عبد القادر كلها، انطلاقاً من أنّها "توجع الرأس" فإذا عُرضت لا بد أن تسبّب له مساءلة من المسؤولين الذين "فوق". وقد صرّح ذلك المسؤول، في جلسة خاصة، أنّه لم يرفض اللوحات لأنّها تقول شيئاً ضد المناضل حافظ الأسد، أو الجيش، أو المخابرات، أو الوزارة... سأله أحد الحاضرين: ما مشكلتها إذاً؟ قال: بصراحة؟ لم أفهمها، وخفت أن يكون فيها شيءٌ مخبأ فأتبهدل... هذا المسؤول أصبح، بعد فترة وجيزة، مديراً عاماً لإحدى الصحف المركزية، ثم عهدوا إليه برئاسة المؤسسة التي تتبع لها الصحف كلها.

وكان عضو فرع الحزب المختص بالثقافة والإعلام في محافظة إدلب أقل تشدّداً من ذلك المسؤول الرَقّي الشكاك، بدليل أنّه وافق على عرض لوحات عبدللي كلها في إدلب. ومن فرط حبه الثقافة، حضر افتتاح المعرض، وقصّ الشريط، وعندما شاهد اللوحات قال لمرافقيه: جيبوا لي الفنان. فركض أحدهم إلى عبد القادر، وقال له: الرفيق فلان يريدك. المرحوم عبدللي كان يشتهر بـ الجفاصة (قلة الدبلوماسية). سأله الرفيق: أيش تقصد بهذه اللوحة؟ قال: ما بعرف. قال الرفيق: كيف لا تعرف؟ ألست أنت من رسمها؟ قال: بلى، لكنّي ما عدت أتذكّر ماذا قصدت. هنا ابتسم الرفيق وقال: إممم. ولكن، لماذا لا ترسم لوحة بعنوان "لن نركع"؟ فقال له: ارسمها أنت!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...