مرّة أخرى نحن والغرب
كلما حاول العرب أن يتصالحوا مع الغرب، تجدّد الاشتباك معه على أكثر من جبهة. آخر اشتباك ما حصل في كأس العالم لكرة القدم في قطر، فهذه الدورة لم تثبت فقط أن الرياضة مرتبطة بالسياسة، رغم الدعوات المتتالية للفصل بينهما، وإنما كشفت أيضا حرص الغرب على الهيمنة واحتكار القوة الرمزية إلى جانب القوة المادية.
ليس الغرب كتلة واحدة متجانسة. له أكثر من وجه وأكثر من خطاب وأكثر من رسالة. هذه فكرة أساسية من بين أفكار أخرى ترسّخت عندي منذ زمن بعيد، وتحديدا منذ شرعت مع أصدقاء آخرين في القيام بمراجعات نقدية لتجاوز المنظومة الفكرية للإخوان المسلمين، والتي تقبلناها من دون تمحيص في تونس مع بداية سبعينات القرن الماضي. وانطلاقا من هذه الفكرة، بدأنا نطّلع على الثقافة الغربية من منظور نقدي. كان الإخوان المسلمون منذ لحظات التأسيس يضعون أنفسهم في مواجهة الغرب كمنظومة وحضارة. ويعتبرون ما يحصل من خلافاتٍ وحروبٍ بين مكوناته مجرّد تفاصيل وتناقضات داخل هذه المنظومة. في حين اعتبرنا هذا الموقف خاطئا، يسعى أصحابه إلى محاولة بناء مركزية حضارية مناهضة للمركزية الغربية تكون في صراع دائم معها.
غذّت كأس العالم في قطر من جديد هذه الحيرة الفكرية والنفسية، وجعلت كثيرين من أبناء هذه المنطقة ومن خارجها يتساءلون: إلى أين يقودنا هذا "الغرب"؟ ومن يتحكّم في مساراته؟ ولماذا تصرّ أطراف نافذة من داخله على التعامل مع العرب، بمسلميهم ومسيحييهم، بهذه العنجهية والتعسّف من أجل فرض بعض القضايا والمسائل المثيرة للجدل، وتستوجب مزيدا من النقاش والحوار بعيدا عن إقصاء المخالفين وتهديد كياناتهم الثقافية؟ لماذا يصرّ الغرب على اعتماد العنف الرمزي والمادي من أجل تلوين العالم بلون واحد، رغم أن مدارس وتيارات فكرية وحقوقية نبعت من داخل هذا الغرب، وأكّدت منذ سنين على أن العالم متعدّد الألوان والثقافات، وأن التعايش بينها هو الخيار الأمثل للحفاظ على السلم العالمي؟
لم تعد المثلية اليوم قضيةً تخصّ أفرادا يدافعون عن حماية حريتهم الشخصية. وهي من بين مسائل عديدة تبنّتها حركة حقوق الإنسان العالمية، ووضعتها ضمن أجندتها على الصعيدين المحلي والدولي. لكن ما كشفت عنه الوقائع في قطر أن هذه المسألة بالذات تجاوزت هذا الإطار الحقوقي، وتحوّلت إلى تيار جارف تقف وراءه لوبياتٌ ذات أذرع مالية وسياسية وفكرية قوية تعمل على زعزعة المنظومات القائمة في مختلف الشعوب والمناطق الجغرافية، من دون مراعاة الظروف وخصوصيات الآخرين، فالمثلية لم تعد مطلبا حقوقيا، وأصبحت جزءا من استراتيجية دولية ترعاها حكوماتٌ ومؤسساتٌ إقليمية وعالمية، وتدافع عنها شبكات إعلامية وثقافية وازنة ومؤثرة. إنها ثمرة جهود ضخمة استمرّت سنوات طويلة حتى بلغ أصحابها هذه القدرة والتأثير. ولكن...
الانتقال من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم قد يحقق بعض النقاط لمن يعتمدون على ذلك في الخطط العسكرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالصراعات الثقافية والحضارية، قد تكون النتائج مختلفة ومؤلمة. وعندما يحاول الهامش أن يصبح هو المركز، يحصل تحول في طبيعة المعركة التي تنتقل من مجرّد صراع اجتماعي وثقافي إلى ما هو أشبه بصراع وجود، فتنتعش من جرّاء ذلك الحركات الدينية والقومية وغيرها من القوى المحافظة أو الرافضة مثل هذه الاختيارات من منطلقات كثيرة، ويُخشى، في ضوء ذلك، أن يؤول هذا الصراع إلى انقسامات أفقية وعمودية لا تُحمد عقباها.
لا يجوز إنكار ما يتعرّض له المثليون أو المتحوّلون جنسيا من انتهاكات متعدّدة وثقتها منظمات حقوق الإنسان، لكن إخراج المسألة من سياقها، وتحويلها إلى حصان طروادة من أجل تحقيق أغراض أخرى لا علاقة لها بالضرورة بهذه الشريحة الاجتماعية، ومحاولة فرض وصاية أخرى على مساحاتٍ حضاريةٍ وجغرافية ممتدة شرقا وغربا، فتلك معركة أخرى، نتائجها غير مضمونة، لأنها ستعطي للتيارات المتطرّفة سلاحا جديدا لإجهاض الجهود الرامية إلى تغيير العالم من خلال الحوار وحماية التنوّع.