مرجعيات داعش .. تاريخية النصوص وممارسات الحاضر

11 مارس 2022

اسم داعش على مبنى غربي مدينة الرقة في سورية (8/7/2017/ فرانس برس)

+ الخط -

كان لاختراق  تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)  المجال السياسي للمشرق العربي وقع الانفجار المدوي، فرض تهديده على الاجتماع السياسي العربي، ورأت فيه المعارضات الديمقراطية، والقوى المدنية الحديثة  العربية، تهديدًا جدّيًا ، بدت معه فكرة الحداثة نفسها مهدَّدة، فشكّل صعوده تحدّيًا لطريقة فهم للإسلام المعهودة، ووقف الغرب وجلًا أمام هذا الصعود، غير أنه وجد فيه  مبررًا لتقاعسه عن مساندة التحرّك الديمقراطي، ومسوّغًا لعودة الوئام مع الأنظمة العربية  (ولمنطق فخَّار يكسّر بعضه). ولا بأس عنده من العودة إلى درس الاستشراق الذي لم ينسه. ولكنه، في الوقت نفسه، شكّل ترياقًا للنظامين في العراق وسورية في أثناء صراعهما مع المطالب الديمقراطية للشعب، فشكّل لديها ذرائع جديده ليبرّرا للعالم قهرهما العباد وتدميرهما البلاد، إذ تصبح المسألة برمتها إرهابا في إرهاب الذي لا يجوز معه سوى تسوية المدن والبشر في الأرض.

 

"استرجاع" الدولة الإسلامية

لعل هذه الوضعية – الأزمة التي أحدثها "داعش" لم تكن الأولى التي صادفت الفكر الإسلامي في تاريخه، إذ تعرّض المفكرون المسلمون لموضوع "الدولة الإسلامية"، أو "دولة الشريعة" في أثناء الأزمات الكبرى التاريخية التي عصفت بالخلافة ودورها ومكانتها في الاجتماع السياسي الإسلامي، فأصبح استرجاع موضوع الدولة الإسلامية فكريًا، من جرّاء ذلك، بمثابة التعويض النظري عن غياب دورها الفعلي في الواقع الاجتماعي السياسي. لهذا، شهد القرن الحادي عش الميلادي صياغة نظرية الخلافة، في فترة تدهور الخلافة العباسية فعليًا، "فبدا ظهور نظريتها، وكأنه بحثٌ مثاليٌّ حول ما يجب أن يكون، وليس كدراسة وصفية لما هو قائم بالفعل"([1])، فلقد ألّف أبو حسن الماوردي، الفقيه الشافعي والمتكلم الأشعري، في القرن الحادي عشر الميلادي، كتابه "الآداب السلطانية" في وضعٍ تدهورت فيه مؤسّسة الخلافة لحساب السلطنة. وتبعه أبو يعلي الحنبلي (ت 458 هجرية) ناقلًا الكثير من كتاب الماوردي، وشاركهما في الكتابة أبو المعالي  الجويني (ت478 ه). ويعود تلاحق تلك الكتابات وتتابعها، بالدرجة الأولى، إلى تهاوي قوة الخلافة العباسية أمام صعود السلطنة البويهية، وفي ما بعد صعود السلطنة السلجوقية، حينها غدت الخلافة مجرّد رمز معنوي يُذكِّر بماضٍ مجيد قد انقضى أكثر مما يشير إلى قوة أمر واقع وسلطان. حينها دخلت شرعية السلطة، ومعها الخلافة، ومفهوم الاجتماع السياسي، في أزمة عميقة، كان أحد مخارجها النظرية النفخ في "القوة الرمزية" للخلافة، بعد تأزّم دورها وانحصاره في الرمزية الدينية، والخطبة والسكّة، للتعويض أو لتغطية الفراغ في سلطتها الفعلية.

الأزمة التي أحدثها "داعش" لم تكن الأولى التي صادفت الفكر الإسلامي في تاريخه

ولم تكن  جهود ابن تيمية النظرية والعملية سوى محاولة للإنقاذ من "أزمة" أكثر عمقًا من التي عاصرها الماوردي والجويني. كان المغول قد اجتاحوا بغداد، وأسقطوا الخلافة العباسية العتيدة، في عام 1259 ميلادية، واستمرّوا، حتى بعد أن أعلنوا اعتناق  الإسلام، في محاولاتهم لاقتحام بلاد الشام ومصر، وقف لهم المماليك، بقيادة قطز  وبيبرس وقلاوون، بالمرصاد، لكن الخطر بقي جاثمًا تعزّزه مخاطر الزحف الصليبي من الغرب الذي بقيت أخر قلاعه في عكا صامدة إلى أن حرَّرها السلطان الأشرف خليل 1291. ترعرع ابن تيمية وكتب وأفتى في هذه المفترق الحرج من التاريخ، وكان أقرب إلى الإمام الجويني وكتابه "غياث الأمم" الذي وضع احتمال غياب الخلافة، حين خصّص في كتابه فصلًا بعنوان "تقدير خلو الزمان من الأئمة"، فعوّل على أن يقوم الفقهاء، في هذه الحالة، بدورهم في استمرار الخلافة وإحيائها بشروطها الشرعية ([2]).

واجه ابن تيمية حالة لم يعد فيها غياب الخلافة احتمالًا موضوعًا للدراسة فحسب، بل أصبح واقعًا فعليًا مع سقوط خلافة بغداد في قبضة التتار، وبقاء أخطار اجتياحهم البلاد جاثمًا. لذا يُلاحظ تشدّد ابن تيمية في باب الكفر والإيمان، وباب الجهاد. أما في مسألتي الحكم والحاكم، فبقيت أحكامه متشابهة مع موقف الجويني في قبول ولاية المتغلب. وإلى جانب ذلك، منح ابن تيمية العلماء إمكانية توليهم السلطة، فاتفق مع رهان الجويني على دور العلماء في حراسة الدين وسياسة الدنيا ([3])، غير أنه لم يضع مسألة الخلافة/ الإمامة، على أهميتها، في الأصول، بل وضعها في منزلة الفروع، وانتقد الاثني عشرية لترتيبها الإمامة في مرتبة الأصول "إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب .. كان النبي (ص) يسير في الكفار فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر ولا يذكر لهم الإمامة بحال"([4]). نقل  ابن تيمية الأولوية إلى "التوحيد" وليس، على غرار الشيعة، إلى الإمامة. كما أنه وضع حجّية الأمة/ الجماعة وعصمتها في مقابل حجّية الإمام وعصمته، "لا نسلم أن الحاجة داعية لنصب إمام معصوم، وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته"([5]).

حاول إسلاميون معاصرون التنظير لـ"نظرية الدولة الإسلامية"، كتعويض نظري عن الفراغ الذي تركه زوال الخلافة العثمانية

استعارت السلفية الجهادية من ابن تيمية ما تحتاجه هي لدعم توجهاتها الجديدة الغريبة عن الجسم الفقهي التقليدي، ومن جملته فقه ابن تيمية، فاحتاج الأمر لديها تأويل نصوصه بطريقةٍ تناسب ما تريده هي، فقد اقتبست من فتاويه تلك النصوص التي قالها بدلالة الحرب التي كانت تخوضُها مصر وبلاد الشام تحت قيادة المماليك ضد الغزو الصليبي من الغرب، والغزو المغولي من الشرق، وهي معركةٌ بدت له  "مصيرية"، ففي حومة تلك المعارك التي اشترك فيها بنفسه، كانت فتاويه متشدّدةً ضد  الفئات التي ساندت  الغزوات أو التي وقفت على الحياد، أو فتحت بابًا للخلاف في ذروة المعركة، ولم يقبل بإسلام المغول، طالما أنهم يغيرون على بلاد العرب المسلمين، ووقف، بكل حماسةٍ، مع قيادة المماليك في معاركهم الفاصلة ضد الغزو المغولي، فتجاهلت السلفية الجهادية السياق التاريخي لفتاوى الرجل، فاقتطعت بعض الفتاوي لتوظيفها في معركتها، وتجاهلت الأخرى، وخصوصا موقفه من الخلافة والحكم، فكان مدخلها إلى ابن تيمية حاجتها لتعزيز فكرة "الولاء والبرّاء" لتضخيم الجانب العدواني تجاه الآخر، وتقوية العنصر الهجومي والعدواني ل"الجهاد"، فوجدوا في فتاويه عن الجهاد ضد التتار ضالّتهم في تأسيس نظرة عدائية صارمة للعالم. فوظف محمد عبد السلام فرج (أُعدم عام 1982) نصوص ابن تيمية في تنظيره لـ "الفريضة الغائبة".

"الخلافة" بعد الربيع العربي

كما حاول الإسلاميون المعاصرون التنظير لـ "نظرية الدولة الإسلامية"، في الربع الأول من القرن العشرين، كتعويض نظري عن الفراغ الذي تركه زوال الخلافة العثمانية في 1924، وأمام تدهور (أزمة)  موقعهم السياسي - الثقافي، فوقفت هذه الظروف وراء أطروحة دولة "تطبيق الشريعة"، فبدا وكأنهم قد أصبحوا أمام تناسب طردي بين استفحال أزمة اجتماعهم  السياسي واستحضار فكرة "الدولة الإسلامية" بالقدر الذي يبدو فيه الأمر.

وهكذا، وفي حالة مماثلة، وفي ذروة "الأزمة" الكبرى التي عانت منها ثورات الربيع العربي أمام هجوم الثورة المضادّة، برز القول بـ "الدولة الإسلامية في العراق/ والشام"، وأعقبها إعلان أبي بكر البغدادي خلافته العامة على المسلمين، فاستُحضرت مسألة "الخلافة" إلى ميدان التاريخ، في النظر والممارسة. وقد توج هذا الحدث الكبير وترافق مع مظاهر مروّعة للعنف واستباحة الدماء، فريدة من نوعها، ليس في وقائعها وأحداثها الصادمة، التي ارتُكب ما يضاهيها، وأكثر فظاعة ورعبًا رجال نظام الأسد في سورية، ورجال نوري المالكي في العراق، لكن تميَّز  عنف "داعش" عن هؤلاء بأنهم ارتكبوا تلك الأفعال الدموية علنا، بطريقة مشهدية، على سبيل المباهاة، مع شرحٍ صبور لشرعية أفعالهم باعتبارها تطبيقًا فعَّالًا لأحكام الله!

كان هجوم الثورة المضادّة الدموي على الجمهور العربي السلمي  بمثابة حاضنةٍ لولادة مشوهة لصعود "خلافة" أبو بكر البغدادي

وتزامن الرهان على استرجاع الخلافة، في وضعنا الراهن، والجهاد من أجلها، مع تفكّك منظومة القيم الحاكمة لمجتمعاتنا، وانهيار أسس الاجتماع السياسي، وتزعزع فكرة المواطنة الناظمة لاجتماع الحديث، وممارسة السلطات الراهنة أبشع أنواع القهر الممهور بالتمييز الطائفي، نظريًا وعمليًا في ظروفٍ لا يمكن وصفها سوى بأزمةٍ ناتجة عن انكسار أحلام الجمهور بالحرية والكرامة، فحينما امتلأت الميادين بالكتل المليونية، في بداية الربيع العربي، تراجعت أمامها تحرّكات السلفية الجهادية وأساليبها العنيفة بالتغيير، وأطلت من جديد نظريات الجهاد العنيف الموجّه إلى أبناء الوطن، فكان هجوم الثورة المضادّة الدموي على الجمهور العربي السلمي  بمثابة حاضنةٍ لولادة مشوهة لصعود "خلافة" أبو بكر البغدادي، غير أن "داعش" لم يصنع، في الممارسة الفعلية، سوى كيان مسخ يتشكّل من مجموعة استباحت الدماء والفتك بالعباد، وكل مخالف لهم باسم الكفر والإيمان، فضيقوا مفهوم الإسلام (=الولاء) على مقاس جماعتهم هم  فحسب، ووسّعوا دائرة الكفر (=البراء)، لتشمل البشر كافة باستثنائهم هم. لقد تسيّد "داعش" الأرض والبشر بالقوة والعنف المنفلت من عقاله، تحت غطاء غليظ من نصوص منتقاة خارج التاريخ!

 

بذور في "الإسلام السياسي"

لقد نشأت بذور هذه الظاهرة في قلب حركة الإسلام السياسي، التي شهدت بداية صعودها في الستينات في المجال السياسي للنظام "التقدّمي" التسلطي، واستثمارًا لهزيمة 5 حزيران (1965) في مناخ الحرب الباردة العربية التي قسَّمت النظام العربي بين "تقدّمي" و"رجعي"، فاختار  "داعش" من السلفية الوهابية وجهه الأكثر تشددًا وتكفيرًا، ومن تفرّعات السلفية المدينية التي قادها تلامذة حسن البنا، بطريقة ارتدادية على الإصلاحية الإسلامية ومفاهيمها. وقد تشكّلت من تلاقي هذين المسربين الأرضية الصلبة لنشوء السلفية الجهادية، والتي جدَّد من عزيمتها  وشبابها "الجهاد الأفغاني" في مواجهة الغزو السوفياتي، فكانت الساحة الأفغانية المرجل الذي صهر السلفية الوهابية بالسلفية المشرقية المدينية (في مصر والشام)، وقدَّم فصلًا جديدًا أكثر تشدّدًا، ثم اكتسبت الثقة بقدرتها على الوصول إلى السلطة من نجاح الثورة الإيرانية بإيصال رجال الدين إلى الحكم والقيادة، كما منحت تلك الثورة للإسلاميين المثال التطبيقي لـ "بناء سلطة دينية مركزية" تحت عنوان ولاية الفقيه، وهي الصورة الشيعية لمفهوم حاكمية الله عند السلفية الجهادية (السنية). ومن جهة أخرى، منحت إيران، في سلوكها الطائفي في الميدانين، العربي والإسلامي، وجهًا طائفيًا للسلفية الجهادية (السنية)، سيما بعد احتلال أميركا العراق، بالاستناد على الدعم الإيراني، وبالشراكة مع  الأحزاب الشيعية في العراق (حلفاء إيران)، فاكتسبت السلفية الجهادية  في العراق  (بقيادة أبو مصعب الزرقاوي)، نهجًا طائفيًا صارخًا تكفيريًا، كان في أحد وجوهه انعكاسًا، أو صورة مقلوبة، لطائفية السلطة العراقية التي هي شريكٌ مخلصٌ لإيران وللاحتلال الأميركي. وانتقل هذا النهج إلى الساحة السورية على إثر  انتكاسة ثورة السوريين السلمية بعد  معارك النظام الدموية وتدميره المدن تحت شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وتقاعس العرب والعالم أمام المقتلة السورية.

ما تزال الظروف القديمة، والتي أنتجت داعش على حالها، أزمة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقيم

ورث خطاب "داعش" نبرة خطاب الزرقاوي ومضمونه، فهما قد شربا من نبع واحد، وإن اختلفا في ترتيب الأولويات، على ضوء تغير المعطيات الزمنية ومشكلاتها. استقى الزرقاوي دوافعه وعنفه من استباحة سلطة الاحتلال وشريكها في الحكم  دماء  العراقيين، ومشهد استباحتها أهل الفلوجة ورمزية سجن أبو غريب. كما استقى "داعش" العنف المنطلق من عقاله لنظامي الأسد والمالكي في مواجهة المطالب الديمقراطية والسلمية. لقد استمد طابعه الخاص من الحرب الطائفية التي خاضها في العراق، ومن مفاعيل انتكاسة ثورات الربيع العربي وما أحدثته من عذاباتٍ كبرى وفقدان أفق ودم غزير، كما استمد عنفه من اندماج كثيرين من قادة المخابرات العراقية وعناصرها، وفيما بعد السورية، في صفوفه، ومن عذابات الاعتقال وظلمة الأقبية وقسوتها. وبهذا الامتزاج بين الطائفية والقاعدة الاجتماعية المخابراتية، استكمل "داعش" شروط تحوله  إلى "وحش"، وليبقى، جرَّب أن  يطبّق مرحلة "إدارة التوحش".

ويطل "داعش" في هذه الأيام ليعيد سيرته الأولى، محاولًا الاستفادة مع بقاء الحال على ما هو عليه، منذ غادر الرقة تحت القصف والتدمير، وما تزال الظروف القديمة على حالها، أزمة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقيم. ولكن على "داعش" ألا ينسى  الفرق بين الماضي والحاضر، فإن تجربته مع البشر والناس ما تزال رائحتها الكريهة والمرعبة تزكم  النفوس، وما تزال هيئة رجاله السوداء ترعب الناس، فلم يترك أثرًا طيبًا  في قلوب الناس. ترك ذكريات كئيبة سوداء، رصاصا، وأصوات استغاثة، وجلادين ، ومشانق، وفصولا مرعبة  في كل زاوية عبرها رجاله الأشباح، فهو صورة ممسوخة لأنظمة التسلُّط والطائفية القبيحة، والناس في شوق ولهفة لرياح الحرية والكرامة، وليس للكوابيس الرهيبة.


المراجع:

[1]- نزيه نصيف الأيوبي. العرب ومشكلة الدولة، بيروت، الساقي 1992، ص68 وص95.

 [2] -إمام الحرمين الجويني أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله، غياث الأمم في التياث الظلم تحقيق مصطفى حلمي وأحمد فؤاد عبد المنعم، ط3، الإسكندرية، دار الدعوة ،1987، ص3.

 [3] -د. هاني نسيرة، متاهة الحاكمية في فهم ابن تيمية، سلسلة رسائل الدكتوراه 110، بيروت، مركز الوحدة العربية،2015، ص128

 [4] -أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق محمد رشاد سالم، ج 1، ط2، الرياض، جامعة الإمام سعود الإسلامية ،1991، ص75.

 [5] -المصدر نفسه، ج3، ص272-273.