مذكّرات عمر وصفي ومريم سماط
أمّا عمر وصفي فهو ممثلٌ مصري، توفي في 1945 عن 71 عاما، في وسعك أن تتعرّف عليه إذا شاهدتَ (مجدّدا؟) الفيلم الأكثر واقعية، وتميّزا، في بواكير السينما المصرية "العزيمة" (كمال سليم، 1939)، تلقاه في دور الحلاق في الحي الشعبي القاهري. وله حضورٌ في فيلم أم كلثوم "دنانير" (أحمد بدرخان، 1939)، وفي أفلام أخرى. أمّا مريم سماط، فممثلةٌ سوريةٌ (شامية) مسيحية، ولدت في بيروت في 1870، (متى توفيت؟ لا أعرف)، اشتُهرت في مصر واحدةً من أعلام فن التمثيل في أولى سنوات القرن الماضي والعشرية الأخيرة في القرن الذي سبقه. أدّت أدوارها في غير فرقةٍ مسرحيةٍ. لها صورتان فوتوغرافيتان منشورتان (وربما أكثر). أمّا استدعاء اثنيْهما إلى هذا الركن فمناسبته الاحتفال، الاثنين الماضي، باليوم العالمي للمسرح، وكلاهما أحبّا أبا الفنون، وأخلصا له. وقد قالت سميحة أيوب، في الرسالة التي وجّهتها بالمناسبة (اختارتها اليونسكو)، إن المسرحيين يعتنقون مذهب الحياة لتدبّ في العالم الحياة. وقد بسَط الباحث الدارس المحقّق، تيسير خلف، في كتابه "سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر ... مذكّرات الممثلين عمر وصفي ومريم سماط" (منشورات المتوسط، ميلانو، 2022)، وثيقتيْن فريدتيْن، نادرتيْن، لذينك العلميْن العتيقيْن في بواكير فن التمثيل العربي على خشبات المسارح في مصر والشام، دلّتا على مجاهدةٍ ومغالبةٍ عسيرتيْن في مواجهة عوائق غير هيّنة من أجل المسرح حياةً وشغفا وفنا وجمالا.
خمس حلقات مختصرة نشرتها الممثلة مريم سماط (تسمّيها مقالات)، في صحيفة الأهرام، وآخرها في سبتمبر/ أيلول 1915، لكن إحالاتها إلى أحوالٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ عامة غايةٌ في الأهمية. والممثلة الذكية، ذات الثقافة الواسعة، والتي تألقت 21 سنة في أدوارها المسرحية في عدّة فرق (أبي خليل القباني، سلامة حجازي، جورج أبيض،... إلخ). إنها ترى التمثيل كان ولا يزال "مدرَجةً من مدارج الرّقي"، وتكتب "هبَّ من أنصار الفضيلة وحُماة الأدب رجالٌ من كرام السوريين، وقفوا أنفسهم لخدمة بلادهم وأمتهم، ورأوا أن يشيّدوا للتمثيل صروحا مدعّمة على أساس متين من العلم والعرفان". وتكتب "مصر والشام قُطران، شعبُهما متحابٌّ، لأن الآصرة التي تجمع بينهما قوية متينة، هي آصرة اللغة، لذلك عطفَ على مصر هؤلاء العلماء المثقفون، فنفر بعضُهم إليها، وأنشأ فيها للتمثيل دورا ومراسح [ليس من خطأ مطبعي] وحركة مباركة، كانت ركنا من أركانها الأدبية". تقصّ مريم سماط، في ما نشَرت وأوجزت، عن "الغيرة العمياء" التي دبّت في قلوب الممثلات، وتكتُب "وما الغيرة البالغة حدّها إلا نذير الشقّاء أنّى حلّت، وعامل التفريق أنّى كانت".
تضجّ مذكّرات عمر وصفي ومريم سماط، وقد تزاملا مع القباني، وتقاطعا في بعض ما ذكراه وحكيا عنه، بكثيرٍ من الشخصيٍّ والإنسانيّ والفرديّ في مشهدٍ يطلّ على بعض النشاط المسرحي في مصر، في تلك العقود البعيدة، ولعلّ هذا ما يُعطي هذه النصوص ثراءَها الكاشف. وتيسير خلف يؤشّر إلى أن كثيرين كتبوا عن تاريخ المسرح العربي في القرن التاسع عشر، لكنهم انشغلوا بالمادّة التاريخية والمحتوى الفكري والجمالي، وغاب عنهم التدقيقُ والعرض للجوانب الإنسانية والشخصية التي رافقت تلك النشأة. ولمّا بذل الباحث الفلسطيني، المنقطع لدرس أبي خليل القباني وجهوده (وبواكير المسرح العربي)، جهدا بديعا في هذا الكتاب نادِر النوع، في التدقيق والإيضاح في الحواشي، بل وأيضا في تصحيح أخطاء السهو (وغير السهو) لدى وصفي وسماط، فإنه أعطى مثالا لما يلزَم أن يكون عليه من يشتغل في التاريخ، تاريخ الفنون هنا، فالأراشيف وحدَها لا يُستسلَم لها كيفما كانت، والمقاطع من سيرة عمر وصفي، كما قدّمها ورواها، هي عند تيسير خلف مقاطعُ تضيء على اتّساعٍ فنيٍّ وثقافيٍّ واجتماعيٍّ. وكان بالغَ الرهافة أن قارئ مذكّرات هذا الفنان الذي عاند أهله وتحمّل ظروفا صعبة، من أجل أن يكون ممثلا على خشبات المسارح ومع عدة أجواق (فرق)، يجول معه قارئُه في غير رحلةٍ إلى الشام (حلب ودمشق وبيروت وطرابلس و...)، ويصادف طرائف وتفاصيل في مواقف كثيرة. ويتعرّف على مشتغلين في صنعة الفن والتمثيل وإدارة المسارح في مصر والشام.
ليس من الحصافة أن يُستَرسَل هنا في التقاطاتٍ مما جاء عليه عمر وصفي ومريم سماط. الأدعى قراءة الكتاب ومعايشة شخوص محكيّاته، والعودُ على البدء إياه، إن المسرح فنٌّ عالٍ ومتعب، وممتعٌ لا ريب، يحتاج أوفياء له مخلصين مجتهدين ومجدّين، هكذا كان أبو خليل القباني واثنان ممن عملوا معه، عمر وصفي ومريم سماط.. وغيرهم كثيرون. شكرا تيسير.