مدوّنة الأسرة ومأزق الإصلاحية المغربية

02 يناير 2025

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

يشهد المغرب سجالاً مجتمعياً حادّاً بشأن التعديلات المقترحة على مدوّنة الأسرة، والتي جاءت استجابة لمطالب الحركتين الحقوقية والنسائية بشأن تحديث هذه المدوّنة بما يعزّز قيم الإنصاف والعدل داخل الأسرة المغربية. من أبرز ما تضمّنته هذه التعديلات منع تعدّد الزوجات إذا اشترطت الزوجة عدم الزواج عليها في العقد، وضمان حق الأم المطلقة في حضانة أطفالها حتى بعد زواجها، واستمرار النفقة على الأطفال بعد زواج المطلقة من رجل آخر، وتقاسم الممتلكات المكتسبة بعد الزواج في حال حدوث الطلاق، وإخراج بيت الزوجية من التركة، وتحديد سنّ الزواج في 18 سنة. وفي وقتٍ رحّبت فيه منظمّات حقوقية ونسائية بهذه المقترحات، معتبرةً إياها خطوة مهمة على درب تعزيز حقوق المرأة والأطفال، رأى فيها الإسلاميون والقطاع المحافظ داخل المجتمع مخالَفةً للشريعة الإسلامية، ومسّاً بهوية الأسرة المغربية واستقرارها، وتشجيعاً للرجال على العزوف عن الزواج، هذا فضلاً عن أن هذه المقترحات تندرج ضمن سياق الضغوط والإملاءات الخارجية التي يتعرّض لها المغرب في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أن التعديلات المقترحة لا تزال في طور النقاش بين الجهات المختصّة في انتظار المصادقة عليها من البرلمان، إلا أنها تعيد إلى الواجهة مأزق الإصلاحية المغربية وعجزها عن اجتراح توليفة مجتمعية تجمع بين البنية الثقافية والاجتماعية التقليدية من جهة، ومتطلبات الإصلاح والتحديث التي يُفترض أن السلطة منخرطة في دينامياتها بقدرٍ أو بآخر. يعود هذا المأزق، في جانب منه، إلى أخذ السلطة، التقليدية في بنيتها ومرجعيتها، بآلية الإصلاح من فوق، وتحديداً من خلال المدخل القانوني، من دون التوسّل بالمداخل الرئيسة في عملية الإصلاح الاجتماعي، وفي مقدمتها التعليم. وعلى ما ينطوي عليه تحديث الإطار القانوني والتنظيمي من أهمية في إصلاح بعض أعطاب المجتمع، إلا أن ذلك يبقى محدوداً في غياب رافعة تربوية وتعليمية كبرى تقود عملية التحديث المجتمعي من تحت.
استبعاد مدخل التربية والتعليم من مختبرات الإصلاح والتحديث هو ما يُبرز التناقضات ذات الصلة، لا سيما حين تمر السلطة والنخب والقطاع الليبرالي والعلماني إلى السرعة القصوى في تبنّي تدابير قانونية ''ثورية'' ترفضها بنية التقليد المتجذرة في المجتمع. ولنا في ما حدث عام 1999 عبرة، حين طرحت حكومة التناوب، التي قادها اليسار الإصلاحي، ''خطّةَ إدماج المرأة في التنمية'' التي تضمنت مقترحات لتعزيز حقوق المرأة، انصبّت بالأساس على تعديل مدونة الأحوال الشخصية، من خلال مراجعة أحكام الزواج والطلاق والإرث وغيرها. غير أن الخطة قوبلت بمعارضة شديدة من الإسلاميين الذين اصطفّ خلفهم القطاع المحافظ داخل المجتمع، ما أحدث شرخاً مجتمعياً استدعى تدخّل الملك محمد السادس الذي كلف لاحقا لجنة استشاريةً وضعت الخطوط العريضة للمدوّنة المعمول بها حاليا.
بالطبع، جرت بعض المياه تحت الجسور في المغرب خلال ربع القرن الأخير، لكنها لا تبدو كافية للذهاب بعيدا في تنزيل مدوّنة أسرة جديدة لا تحظى بقبول القطاع المحافظ داخل المجتمع. هناك مداخل رئيسة في تحديث المجتمعات وتطويرها. يتعلق الأمر بالتربية والتعليم وحرّية التفكير والإعلام والتنمية الاقتصادية والتوسّع الحضري، ما يساعد على تشكُّل طبقة وسطى حضرية مؤهلة لقبول الإصلاحات القانونية الثورية وهضمها من دون عُسر، والذهاب، إن اقتضى الأمر، نحو تسويات مجتمعية غير مكلفة.
تبدو حالة التقاطب التي أثارتها مقترحات تعديل مدوّنة الأسرة تحصيل حاصل للاستثمار في التقليد وتدوير عائداته في السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والإعلام. قد يقول قائل إن النقاش الذي أثارته المقترحات دليلٌ على حيوية المجتمع. لكن ذلك ينبغي أن يترجم في تسويات مجتمعية متوازنة.
إن نظاماً تعليمياً لا يُفسح المجال أمام تنمية الحسّ النقدي وإشاعة قيم المواطنة والحداثة والتنوير هو بالضرورة عاملُ تغديةٍ لبنية التقليد داخل المجتمع. والقانون، على أهميته في خلخلة هذه البنية، تبقى فعاليته محدودة، ما لمْ تقترنْ بتأهيل منظومة التربية والتكوين، وإصلاح الإعلام العمومي، وفتح باب الاجتهاد الفقهي على مصراعيه.

95768568-C0E8-4560-9618-6131E931F5D6
محمد أحمد بنّيس

شاعر وكاتب مغربي