مخلوقات "أم ميمي"
إذا كان المرء يتردّد في الكتابة عن بعض القراءات الثقيلة على العقل أو القلب، فإنه أيضاً قد يتردّد أمام قراءات خفيفة على كليهما.
تردّدتُ، لأنه لا يمكنني الكتابة بحياد عن بلال فضل، ولا عن روايته "أم ميمي". كنت مراهقاً في الصف الثالث الثانوي حين صدرت صحيفة "الدستور" (المصرية) لتلعب دوراً في تشكيل فكري بالكامل. كان هذا عصر ما قبل مواقع التواصل الاجتماعي، وكنت بعيداً في الصعيد، حيث لا مكتبات ولا كتب إلا ما ندر.
تعرّفت عبر "الدستور"، وبلال فضل تحديدا، إلى قائمة طويلة من أسماء الكتاب والشعراء والكتب، كما انبهرت بأسلوب الكتابة الطازج البعيد عن التكلّف واللغة الخشبية في باقي الصحف. تعجّبت للغاية حين بدأ بلال كتابته في صفحتي "قلمين" بسلسلة اعتذارات ومراجعات، على خلاف عادة الكتّاب والشخصيات العامة في ادّعاء الطهرانية والمثالية، كما أعجبت بابتكاراته المتجدّدة، حيث أبواب مثل "أوسكار الموالسة"، و"هذه الأمثال". وفي هذا السياق، تعرّفت، أنا وغيري، إلى شخصياته الذين وصفهم بأنهم "السكان الأصليون لمصر".
حفظنا أسماءً مثل أم هند، التي "لا تريد حبا ولا حنانا، بل تريد معاشا"، وعبد الله سيتا، الذي وُلد في بيتٍ لا توجد فيه ثلاجة، بالطبع أم ميمي "التي أكلها الربو ونحن عنها غافلون"، والتي تحوّلت بطلتَه الروائية.
قبل أكثر من قرن كتب الروسي مكسيم غوركي روايته الشهيرة "مخلوقات كانت رجالا"، عن تفسّخ المجتمع الروسي في نهاية العهد القيصري، حيث جرّد الفقر البشر من بشريتهم، ليتحوّلوا مخلوقات منحطّة، يسود حياتها العنف والقذارة، وإدمان الخمور والقمار والدعارة.
يكرّر بلال فضل تلك الممارسة، فيقدّم في روايته شهادة عن تحلّل الفئات الدنيا من المجتمع المصري، وهي فئاتٌ لا تمثل أقلية عددية في بلدٍ يقبع نحو ثلث مواطنيه تحت خط الفقر خلال العقود الأخيرة، لكنها تمثل أقليةً مطلقةً في ما يتم تمثيله على شاشات القنوات وصفحات الصحف.
وفي مواجهة "فنون الكومباوندات" تظهر صيحة عالم "أم ميمي" والمخلوقات المحيطة بها، مثل شعراوي الزناوي (من الزنا لا الزينة)، وميمي الذي هو عزّت، وأبو سامية، ورحاب، وغيرهم من سكان قاع المجتمع الذي تسوده قوانينه الخاصة من العنف، والسرقة، والتديّن الشعبي والانحلال الخلقي والطائفية في آن واحد.
في حوار قديم معها، قالت الفنانة منى زكي إنها حين عرض عليها بلال فضل سيناريو فيلم "خالتي فرنسا"، ظنت أن هذا العالم كاملاً من خيال المؤلف، ففاجأها بقوله إن هذه الشخصية حقيقية تماما، وإن في مصر بالفعل هناك من يعملن في مهنة "الشرشحة".
للوهلة الأولى، يبدو هدف الرواية الأول هو متعة الحكي في حد ذاتها من دون محتوى سياسي واضح، إلا أن قراءة ما بين السطور تكشف عن مغزى توثيقي هام، حيث كانت مرحلة التسعينيات التي يُهمل أثرها تمهيداً لما لحقها حتى اليوم. ولا تخلو الرواية من إشاراتٍ، كاختيار بطلها أن يوهم سكان المنزل بعلاقةٍ له بالجماعات الإرهابية التي كانت رعب ذلك العصر.
وإذا كان هذا محتوى الرواية، فقد كان لزاماً أن تُحمل على وسيطٍ مناسب، أي لغة مناسبة، لا تقلّ صدامية. كان بلال فضل قد قال سابقاً إنه يستعين بـ"القباحة اللاصريحة"، وهي مناورة لعبها مرارا في أفلامه وكتاباته، لكن الكاتب، في هذه الرواية، يتحرّر ويختار أن يعرّي اللغة كما يتعرّى المجتمع المصري، وكما تعرّت أم ميمي في مشهد تغسيلها المؤثّر لتكشف عن حروق جسدها المنبئة عن حروق روحها.
لغة الراوي، الشخصية المثقفة الوحيدة في الرواية، لغة خاصة جداً، نحتها الكاتب من خلفياته الثرية المتنوعة. هكذا نشهد التناصّ مع القرآن "أم ميمي تحدّث أخبارها"، ومع الأمثال العربية القديمة، "أنجُ ميمي فقد هلكت أم ميمي"، وحتى الروايات العالمية "على طربة أم ميمي جلست فبكيت"، جنباً إلى جنب مع أكثر الألفاظ العامية بذاءة، لتتولد من تلك المفارقة الضحكات وكذلك التأمل.
وعد بلال بأن يُتبع "أم ميمي" اثنتين، لتكتمل "الثلاثية المفروشة"، وهو ما ينتظره القرّاء ليروا المزيد من مخلوقات بلال ولغته.