مخاطر الصدام في السودان
بلغ التوتر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منحىً جديداً فجر أمس الخميس، بعد البيان الذي أصدره الجيش، وصوّب فيه على قوات حميدتي. كال لها اتهاماً بتحشيد القوات والتمدّد داخل الخرطوم ومدن أخرى من دون تنسيق مسبق أو موافقة الجيش، متّخذاً من وجودها في منطقة مروي ذريعة لذلك. حمل البيان إنذاراً واضحاً لقوات الدعم السريع بضرورة التوقف عن ممارساتها، ملوحاً بأن أي صراع مسلح سيندلع "سيقضي على الأخضر واليابس". وللمخاوف من اندلاع هذا الصراع ما يبرّرها رغم كثرة التطمينات التي يحرص بعض الساسة السودانيين على تقديمها كلما برز فصل جديد من الخلاف بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وحديثهم عن استبعاد مثل هذا السيناريو.
ما يجري حالياً يقود إلى احتمالين. الأول، أن يدفع تسارع الصراع إلى تدخّلات ووساطات، خارجية بالدرجة الأولى، تعيد ترتيب الوضع بين البرهان وحميدتي ورسم الحدود الفاصلة بينهما ولو لفترة انتقالية. وهذا الخيار ممكن أخذاً بالاعتبار ارتباطاتهما والدعم الذي يتلقّيانه من قوى إقليمية. كما يمكن للقوى الداخلية أن تؤدّي دوراً في عدم السماح باشتعال التوتر أكثر في ما لو مارست ضغوطاً جدّية واتّحدت حول هذا الهدف، بعدما فشلت في الاتحاد حول أهداف أخرى. الاحتمال الثاني، وهو الأسوأ، اندلاع اشتباكاتٍ بين الجيش والدعم السريع مع كل ما يحمله سيناريو كهذا من مخاطر كارثية على السودان.
صحيحٌ أن ميزان القوى العسكرية بين الطرفين يميل لصالح الجيش، أخذاً بعين الاعتبار فارق التسليح والعديد، لكن هذه الحسبة في الاقتتال الداخلي لا تكفي. ويزداد الوضع خطورةً في بلد مثل السودان، يعيش منذ عقود على وقع الاقتتال الأهلي والتمرّد وحتى الانفصال. أي صدام بين الجيش وقوات الدعم السريع سيعني وضع السودان على فوّهة بركان لأسباب عدة.
تركة نظام عمر البشير من الأزمات الثقيلة جداً. ولم يكن أي طرفٍ يتصوّر أن تفكيكها وحلها سيحدث بين ليلة وضحاها، لكن التعويل كان على أن التغيير الديمقراطي سيقود إلى نهجٍ مختلف من التعاطي مع هذه الأزمات وإدارتها بما يتيح معالجتها تباعاً. لكن انقلاب العسكر على التجربة الديمقراطية قضى على الفرصة التي كانت سانحة، وأي صدام عسكري سيشكّل اللحظة المناسبة لإعادة تفجّر هذه الأزمات دفعة واحدة. والحديث هنا عن أزماتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ واجتماعية.
بلد مثل السودان، حلّ في عام 2021 في المرتبة الثامنة ضمن قائمة الدول أكثر هشاشة عالمياً، فيما حلّ في المرتبة السابعة في قائمة الدول الفاشلة لعام 2022. يُستَمد هذا الترتيب من واقع السودان، فإذا ما تم النظر إلى المؤشّرات الخاصة بالوضع الأمني، فإن انقلاب العسكر، وعدم احتكار الجيش القوة العسكرية، وتشاركها مع "قوات الدعم السريع" التي تشكل عملياً دولة داخل الدولة، إلى جانب انتشار السلاح على نطاق واسع، جميعها معطياتٌ تلخّص الواقع الصعب. وتضاف إلى ذلك أزمات العنف القبلي التي تتفجر بين حين وآخر، ومطالب الحكم الذاتي، ومشكلات الولايات التي تتفجر كل فترة.
أي حديثٍ اليوم عن ضمان الأمن والاستقرار في السودان يقود إلى ضرورة تسريع استعادة المسار السياسي والسماح بتشكيل حكومةٍ مدنية، تتولّى إصلاح نظام الحكم فيه، بما في ذلك وضع المؤسّسات الأمنية كافة، وإن كان هذا الخيار ليس سهلاً، لكنه يبدو الحل الوحيد المتاح بعيداً عن دوامة العنف والاقتتال الذي يُدرك الجميع الكلفة الباهظة له على البلاد وعلى المدنيين في بلد أُنهِك مواطنوه من تجارب اللجوء والنزوح عقودا طويلة.