محمود عباس "فدائياً"

01 مايو 2019
+ الخط -
بشيءٍ من المجاز، وقليلٍ من الاستعارة، وطرفٍ من المبالغة، .. وقسط من الحقيقة أيضاً، يمكن القول إن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يعيش الآن حالةً فدائيةً. كأن روحاً كفاحيةً صارت في حشاياه، وأنفاساً من إرادة التحدّي باتت تغشاه. يسوّغ هذا الافتراضَ الخبرُ الذي طيّرته قناة تلفزيونية إسرائيلية، أن دولة الاحتلال حوّلت سرّاً، قبيل انتخابات الكنيست أخيراً، أموالاً مستحقّةً للسلطة الفلسطينية، مقتطَعاً منها المبلغ المقرّر أن تصرفه السلطة مخصصاتٍ لأسر الشهداء والأسرى، غير أن السلطة، بتعليماتٍ من الرئيس محمود عباس، أعادت الأموال (نحو 180 مليون دولار) بعد أيام، واشترطت لقبوله أن يكون كاملاً. وأعقب هذا الأمر لقاءٌ مع وزير المالية الإسرائيلي، موشيه كحلون، عقده مسؤول الشؤون المدنية الفلسطينية، حسين الشيخ، ألحّ فيه الأخير على تسلّم مبالغ الضرائب التي تجنيها إسرائيل من البضائع المارّة إلى الجانب الفلسطيني من الموانئ والمعابر الإسرائيلية غير ناقصة. وحسب أخبارٍ تتابعت، تباحث رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، تالياً، مع كحلون، في السبل التي تمنع انهيار السلطة الفلسطينية، جرّاء وضعها المالي الصعب جداً. 
يتمسّك الرئيس عباس بموقفه (الفدائي؟) هذا، ويُخاطب الحكومة الفلسطينية، في اجتماعه بها، الأسبوع الجاري، بأنه لن يتم القبول بخصم إسرائيل قرشاً واحداً من الأموال المستحقّة "مهما كلّف من ثمن". وفيما تسلّم الموظفون في السلطة، والذين طالبهم عباس بالصبر، 60% من رواتبهم، تسلّمت أسر الشهداء والأسرى مخصصاتها كاملة. وذكرت أوساطٌ قريبةٌ من عباس أنه يشعر بخيبة أمل، بسبب عدم استجابة العرب لمطلبه في اجتماعٍ في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، قبل أيام، توفير "شبكة أمان" ماليةٍ للسلطة، بإيصال مائة مليون دولار لها شهرياً، في هذه المرحلة الحرجة. وأفيد بأن اتصالات الخارجية الفلسطينية مع الأمانة العامة للجامعة، في هذا الخصوص، لم تنته إلى شيءٍ، ما قد يدفع السلطة إلى البحث عن قروضٍٍ "من دولٍ أجنبية صديقة". ويعرف الرئيس الفلسطيني أن في وسع دولٍ عربيةٍ معينةٍ تأمين ما يطلب، غير أن ثمّة ما هو سياسيٌّ مضمرٌ في امتناعها عن ذلك. وهو يعرف أنه عندما يرفض التواصل مع الإدارة الأميركية، على أي مستوى، بعد الخطوات العدوانية التي اتخذتها هذه الإدارة (نقل السفارة إلى القدس، وقف المساعدات، وقف دعم "أونروا"، .. إلخ)، وعندما يزدري صفقة القرن (يسمّيها أحياناً صفقة العصر)، بعدم الاكتراث بها، فإنما يُخاصم إدارةً شديدة الفظاظة، لا يردعها شيءٌ عن اقتراف أي حماقاتٍ سياسية. وفي أمره هذا، لا يُراهن محمود عباس إلا على قدرة الشعب الفلسطيني على احتمال مزيدٍ من متاعب أحوالِه التي تتردّى أكثر فأكثر، بفعل وضعٍ اقتصادي ومعيشي، تحت الاحتلال، يعاني من الكساد الشديد، ومن هشاشة القدرة الشرائية لدى المواطنين، ومن ضعف الإنتاجية، وقلة الموارد، مع ما ينجمُ عن هذا كله، وغيره، من مفاعيل إحباطٍ ظاهرة، ويأسٍ فلسطينيٍّ شديد الوضوح، تشخّصه الصحافة الإسرائيلية بكثيرٍ من الدقة والصّحة.
لا مجازفة في القول إن السلطة الفلسطينية مهدّدةٌ بالانهيار، جرّاء استضعافها الذي كان قد عبّر عنه شارون مرة في اعتباره عباس "صوصاً منتوف الريش"، وجرّاء استهدافها بسياساتٍ أميركيةٍ عدوانيةٍ تجاه الشعب الفلسطيني، وكذلك اهتراء الموقف العربي والذي تحاول التحايل على بؤسه وركاكته عدّةٌ لفظيةٌ سريعة العطب. وعلى الصعيد المالي، المتوقع أن يصدر عن اجتماع الدول المانحة للسلطة الذي بدأ أمس في بروكسل ما قد يسعفها بعض الشيء، وإنْ بدعم مشروعاتٍ خدماتيةٍ وإنمائيةٍ في الأراضي الفلسطينية (تتبرّع إسرائيل في الاجتماع بتسهيلها!)، غير أن مخرجات هذا الاجتماع لن تيسّر الحل المستدام لأزمةٍ فلسطينيةٍ، ما تنفكّ تزيد هرولةً نحو قاعٍ غير مستبعد، كما أن المسكّنات المالية الشحيحة التي تعالج فيها السلطة التزاماتٍ ملحّةً ستبقى ظرفيةً وموضعية. ويأخذنا هذا المشهد، في بعض تفاصيله، إلى البديهيات المنسية، ومنها أن القضية كلها قضية شعبٍ تحت الاحتلال، انسحبت نخبُه، ومن أناطوا بأنفسهم قيادتَه، من إعلاء مشروع وطني جامع، راهنٍ ومتجدد. أما فدائية محمود عباس المفترضة أعلاه، فليكتف بتقديرٍ لها، في حدودها ومساحتها فقط.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.