محمد أبو الغيط... عش ألف عام
هل تعرفه؟ محمد أبو الغيط طبيب وصحافي مصري شاب، عاش ومات قبل أن يتم الخامسة والثلاثين، ابن "جيل مغدور". دفع ثمن تصديقه أن "مصر للمصريين" من دمائه وحريته وغربته في بلاد الله. لا يمكن تعريف محمد أبو الغيط في سطور. تحتاج معرفته إلى ألف عام من الحكي، على قدر أثره وقيمته وضوئه الساري فينا. "مواطن مصري" هو التعريف الأول الذي اختاره أبو الغيط لنفسه على منتدى شبكة روايات التفاعلية، في عام 2005، أول ظهورٍ "خجول" له، قبل أن يصبح الكاتب الأبرز والأصدق والأكثر وعيا وتأثيرا في جيلنا.
في المدرسة الابتدائية، كانوا يسمّونه "الولد بتاع ميكي"، ومن مجلات الصغار.. ميكي وماجد وباسم والمغامرون الخمسة إلى مكتبة أبيه وجده بما فيهما من كتب إسلامية، ثم إلى مصادفة رائعة، في مكتبة خاله، قادته إلى نبيل فاروق، ومنه إلى أحمد خالد توفيق، الكاتب الأكثر تأثيرا في "روح" محمد، والأكثر إسهامًا في تكوينه القيمي والنفسي. تجاوز أبو الغيط ذلك كله، من دون أن يتنكّر له، وحين تحوّل إلى "نجم" لامع في سماء الصحافة، كتب عنه وعن أحمد خالد توفيق وأثره في تكوينه.
"الفقراء أولا يا ولاد الكلب"… تدوينة تحولت إلى مقال، ثم إلى "علامة" على جيلٍ ومرحلةٍ بأكملها، كتبها أبو الغيط بعد خلع حسني مبارك، وسط صراعات ما بعد الثورة، تيه.. وكراهية.. وفقدان للبوصلة، أضاء محمد الطريق أمام الحائرين، وأقلق مضاجع الأدعياء والسماسرة. كتب إبراهيم عيسى ردّا مزايدا بعنوان: الحرية أهم من الفقراء، ليرد محمد في هدوء: بل الفقراء أهم من الحرية. برز أبو الغيط كاتبا وقيمة، وكانت مقالاته وتحقيقاته، طوال الوقت، ميزان الوعي وبوصلته.
غادر محمد أبو الغيط مصر في عام 2015، بعد محاولات جادّة للبقاء، وعمل في تلفزيون العربي في لندن. وفي أقل من سبع سنوات، حقق ما لم يحقّقه صحافي مصري في ربع قرن مضى، وكانت أبرز إنجازاته تحقيقه الاستقصائي المتلفز "المستخدم الأخير" عن الدورين، السعودي والإماراتي، في تسريب أسلحة حديثة إلى أطراف الصراع في اليمن. ونال عنه جائزة فيتيسوف الروسية للصحافة، وجائزة ريكاردو أورتيغا للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة.
هاجم مرض السرطان محمد أبو الغيط قبل عام ونصف العام، وعلى أثره أجرى عملية جراحية لاستئصال المعدة، في محاولة أولى للنجاة، لكن المرض الخبيث كان قد انتشر وتشعّب في الجسد كله. قاوم محمد في صبر وجلد، وخضع لتجارب علاجية قاسية من دون جدوى.. رفض أبو الغيط أن يكون السرطان أو انتظار الموت عائقَين أمام بحثه الدائم والدؤوب عن "إضاءة" يتمثلها، ويمنحها للآخرين. واصل الكتابة، على سرير المرض، وفي لحظات الإفاقة من "البنج"، مقالات مطولة على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، أودعها خلاصات تجربته، في عذوبةٍ وعمقٍ نادرَين، وصدق أقوى من آلامه أو حاجته للتعاطف.
واجهت زوجة محمد أبو الغيط السيدة إسراء شهاب ظروفا شديدة القسوة، زوج يصارع الموت، وأب سجين منذ ثماني سنوات، وطفل يحتاج إلى الرعاية. وكانت أمنية محمد الأخيرة الإفراج عن والد زوجته الدكتور السيد حسن شهاب، عميد كلية الهندسة السابق في جامعة حلوان، والذي صدر حكم براءته من محكمة النقض منتصف العام الماضي، ورغم ذلك لم يخرج، وجرى تدويره في قضايا أخرى.
"يبدو أنها لحظة النهاية"… هكذا بدأ محمد أبو الغيط رسالته الأخيرة، عبر ماسنجر فيسبوك، فجر يوم 1 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وفي مساء اليوم نفسه، وقبل ساعات، وربما دقائق، من دخوله غيبوبة الموت، عاد ليسألني عن شيءٍ يخصّ جمع الصلوات وقصرها، ويطلب إجابة مكتوبة، وليست مسموعة، من صديقنا الشيخ عصام تليمة. إلى اللحظات ما بعد الأخيرة، يقاوم ويصلّي ويدعو ويطلب الدعاء، إلى اللحظات ما بعد الأخيرة يرسل كلمات الحبّ، بصدق ودفء ومودة، إلى اللحظات ما بعد الأخيرة يحاول أن يكون الصديق الأقرب والأوفى، وفي يقين مُتعَب.. يقول: "أشوف وشّك بخير".