محمد أبو الغيط عدوّ من؟
رحل محمد أبو الغيط، الكاتب الأبرز في جيله، إلى رحمة ربه، ولم يعد يحتاج من الدولة المصرية أو غيرها شيئا. لكننا من يحتاج أن يسأل، ولن يملّ: لماذا غاب أبو الغيط عن بلاده حيا وميتا؟ ليس من أجل "صاحب الضوء" وحده، ولكن من أجل آخرين، بالآلاف، لا أحد منهم يعرف أو يفهم لماذا تحرمه السلطات المصرية من حقه الأصيل في بلاده، العيش فيها، أو الموت فيها. إلى وقت قريب، كنّا نتندّر بأن مصر تحولت إلى مقبرة كبيرة، يهرُب منها من يروم الحياة، ولا يعود إلا ميتا ليدفن، اليوم، ومع نظام عبد الفتاح السيسي، صار الموت في مصر، حتى الموت والدفن، ممنوعا، وخطرا على الميت وأهله.
أمام صورة قبر العزيز الغالي محمد أبو الغيط وجدتُني أسأل: ماذا فعل محمد؟ ماذا فعل ليتمنّى زيارة مصر في أعوامه الأخيرة غير مرّة، ويحاول، ولا يستطيع؟ ماذا فعل ليعيش متمنّيا رؤية أقرب الناس إليه، ومنهم والد زوجته المسجون ثماني سنوات في تهمةٍ لم يرتكبها، وبرّأته المحكمة منها، والمعاد تدويره في قضايا واتهاماتٍ أخرى، أيضا لم يرتكبها، وسوف تثبت براءتُه منها، كما ثبتت في غيرها، وكما يعلم، يقينا، من اتهمه وسجنه وغرّبه داخل بلاده وغرّب أولاده وأحفاده خارجها، وهو الأستاذ الجامعي المرموق، وعميد سابق في كلية الهندسة في جامعة حلوان، من غير داع أو دافع سوى الانتقام والتشفّي فيمن سوّلت لهم أنفسهم، وتطلّعوا، يوما، إلى أن يكونوا "مواطنين". ما الذي فعله محمد أبو الغيط ليموت بعيدا عن أرضه آلاف الأميال، ويُدفن بعيدا عنها، رغما عنه، وهو الصعيدي، الذي يحنّ إلى الأرض حنين المختنق إلى الهواء يملأ صدره؟
هل كان محمد أبو الغيط خطرا على الدولة المصرية .. أمنها القومي .. استقرارها .. هيبتها.. قداستها.. منقذها الجامد جدا عبد الفتاح السيسي؟ وأي نوع من "المختلفين" النزيهين يريد النظام المصري، ويتمنّى، غير محمد أبو الغيط وأمثاله؟ السؤال نفسه سألته يوم ذُبح جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، وهي الجريمة التي لا تقل عما حدث مع محمد أبو الغيط وجيله، وإن اختلفت الأشكال والمعالجات .. أي نوع من "المختلفين"، (ولا أقول الثوار أو المعارضين بالمعنى السياسي)، كان يريده قتلة جمال خاشقجي أو يتمنّونه لأنفسهم ولدولتهم، وهو الذي كان يدعم ويشجّع، باحتفاء حقيقي، كل خطوة يقوم بها النظام السعودي في اتجاه الإصلاح. وتحمّل، جراء ذلك، اتهاماتٍ ومزايدات، من فصيله، بالتناقض والتأرجح بين معارضة النظام من ناحية ودعمه أو مغازلته من ناحية أخرى، ولم يثنه ذلك عن خطّه الإصلاحي، وخطابه المهني، والهادئ، ومع ذلك ذبحوه وسلخوه وأذابوا جسده .. فما الداعي .. وما المطلوب؟
كان خاشقجي وأبو الغيط، وأمثالهما، "نماذج" نادرة واستثنائية، للكاتب والمثقف الذي يختلف في إطار الصالح العام، ويشير إلى المشكل، ويقترح الحلول بالكلمة لا بالسلاح، وبالمعلومة الموثقة، لا الصخب والصراخ والتحريض.. ناهيك عن النجاحات المهنية العالمية والمشرّفة لأي بلد، فما جريمتهم، ولماذا يُحرمون من أبسط حقوقهم، وبأي ذنب، أو جريرة، أو شرع، أو قانون، أو عقل، أو منطق سياسي أو أمني؟
شهد لمحمد أبو الغيط، الصحافي والكاتب وصاحب الموقف الشريف والإنسان، كل من عرفه، أو عمل معه، أو تابع كتاباته وتحقيقاته وتعلّم منها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حتى من اختلفوا معه جذريا، وأيدوا، على بياض، (أو سواد)، ومن دون شرط، نظام عبد الفتاح السيسي. الجميع شهد له (أو سكتوا). فما نوعية النظام (أو الحاكم) الذي يرى في نموذج أبو الغيط خصما أو عدوّا؟ ما نوعية النظام الذي يستبعد أمثال أبو الغيط من صدارة صفوف المشاركة في البناء والنهوض؟ ما شكل البلد الذي يستغني عن أهل الكفاءة والخبرة، والإخلاص المشهود، أيًا كان توجّههم، لحساب أهل الثقة والحظوة.. و"تمام سعادتك يا فندم"؟.
كان أبو الغيط خيط ضوء، فمن يحمي ظلمات الحاضر والمستقبل بتغييب الضوء؟