محكمة الحريري: ما بعد الإدانة الجنائية
ساعات طويلة أمضاها قضاة المحكمة الخاصة بلبنان التي تنظر في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، يوم الثلاثاء الماضي، في شرح حيثيات عملهم قبل إعلان حكمهم وإدانة سليم عياش في الجريمة. بالنسبة لكثر، كان الحكم أقل من التوقعات، خصوصاً أنه لا أحد يمكن أن يقتنع بأن جريمة بهذا الحجم كان عياش وحده من قرّرها وخطّط لها ثم نفذها.
ساهمت مجموعة من العوامل في رفع سقف التوقعات من المحكمة، كان التجييش السياسي عاملاً رئيسياً فيها. على عكس معرفة أعضاء المحكمة، فضلاً عن الفاعلين الرئيسيين في المشهد السياسي اللبناني، لم يشرح أحد طوال 11 سنة من تاريخ بدء عمل المحكمة في 2009، على نحو كاف للبنانيين، حقيقة أن المحكمة، وبسبب المساومات الدولية التي رافقت إقرارها بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757، نصت في نظامها التأسيسي على أن ولايتها الرئيسية "محاكمة الأشخاص" المتهمين بتنفيذ الاغتيال، أي أنها غير مختصة بإدانة دول، أو أنظمة، أو كيانات. وبالتالي، فإن إدانة عنصر واحد في حزب الله (عياش في هذه الحالة) أو حتى عشرة وليس فقط المتهمين الأربعة سيان، ولم تكن تتيح للمحكمة توجيه أصابع الاتهام للحزب مباشرة بالجريمة، ما لم تتوفر لديها أدلة قطعية تربط من خلالها على نحو لا يقبل أي شك بين من يتم إثبات تورّطهم بالتنفيذ والذين أصدروا أمر الاغتيال. وهنا تحديداً لا يجب إغفال أنه كان من شبه المستحيل أمام المحكمة الوصول إلى هذه الحلقة الوسيطة.
ما فاقم حالة الخيبة، عجز المحكمة عن الإجابة عن عشرات الأسئلة المعلقة منذ ارتكاب الجريمة في عام 2005، بما في ذلك هوية الانتحاري الذي قاد الشاحنة المفخخة، وإن خلصت إلى أن أبو عدس الذي تبنّى العملية في شريط مصوّر كان مجرد مسرحية للتضليل عمد إليها المنفذون بعدما توصلت إلى أنه "ما من دليل مباشر يربط السيد أبو عدس بمسرح الجريمة".
مشكلة المحكمة تكمن بوضوح في عدم توفر الأدلة الكافية لديها لإدانة المتهمين لتبني نظرية الادعاء الذي فصل كيفية تورّط المتهمين الأحياء الأربعة إلى جانب القيادي العسكري في حزب الله مصطفى بدر الدين، الذي قتل في سورية عام 2016. وإذا كانت مهمة المحكمة في ما يتعلق بقضية الحريري انتهت نظرياً بمجرد إعلان حكمها، ما لم يُستأنف القرار، فإن تداعيات قرارها على الساحة السياسية هي الأهم.
وقد خرج سعد الحريري من لاهاي ليعلن قبول الحكم، مشدّداً على أنه صار واضحاً أن شبكة تنفيذ الاغتيال خرجت من صفوف حزب الله، مطالباً إياه بالتضحية (تسليم عياش)، قبل أن يشير إلى أن ما تبقى هو العدالة التي ستنفذ مهما طال الزمن. وفي المقابل، لا أحد يُفترض أن يتوهم أن حزب الله، الذي يصرّ على أنه غير معني بالمحكمة وما يصدر عنها، سيعمد إلى تسليم عياش إذا كان لا يزال حياً. كما افتراض أن يؤدّي موقفه هذا إلى إقصائه من المشهد السياسي سذاجة سياسية، أخذاً بعين الاعتبار موقعه في النظام اللبناني وتحكّمه في مفاصل الدولة.
وعملياً، خيارات الحريري معدودة؛ اشتراط تحقيق العدالة أولاً، وهو ما يعني تصعيدا سياسيا مفتوحا على احتمالات عدة، أو استغلال حكم المحكمة الذي لم يدن حزب الله والانخراط في حكومة يشارك فيها الحزب. ولا شك في أن الحريري ليس زاهداً في السلطة، وأنه يريد العودة إلى رئاسة الوزراء في أقرب فرصة. وهنا لا يجب إغفال الضغط الخارجي (تقوده فرنسا ولا تعارضه أميركا) لترميم النظام القائم على المحاصصة الطائفية، عبر تشكيل حكومة تجمع مختلف القوى السياسية، خصوصاً في ظل الضغط الذي يواجهه منذ احتجاجات 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي تضاعف بعد جريمة مرفأ بيروت.