مجزرة بوتشا والإدانة كما يفترض أن تكون
لم يجد المسؤولون الغربيون صعوبةَ في توصيف قتل العشرات في بوتشا قرب كييف بأنها جريمة حرب .. ومجزرة .. وتستحق العقاب .. وفرض أقسى العقوبات على روسيا، لتطاول عائلة الرئيس فلاديمير بوتين ودائرته المقرّبة والبعيدة.
في مقياس قيمة الإنسان وحياة البشر، قتل العشرات أو المئات غدراً يفترض أن يستدعي ردود الفعل نفسها. ولكن في مقياس السياسة والمصالح والعلاقات لم تكن الأمور هكذا ولن تكون يوماً. ما استغرق أكثر من عقد في سورية ولم يُعترف به بهذا الوضوح لم يحتج إلا إلى نحو شهر في أوكرانيا. مع العلم أن الجاني نفسه، وإنْ كان هذه المرّة لم يعد يكتفي بالصواريخ والطائرات التي تدكّ المدن وتحوّلها إلى كومة ركام، بل يتطلب الأمر الانخراط المباشر على الأرض للجنود الروس والقتل بأيديهم لتعويض عجزهم عن كسر الأوكرانيين والتقدّم سريعاً. كذلك يتكرّر سيناريو نفي المسؤولية، وإنْ باستخدام مصطلحات مغايرة، كالحديث عن وقوف "أساتذة الاستفزاز في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي" ووجود "استعراض مسرحي".
أما ردود الفعل الدولية فليس مبالغا فيها، بل هي ما يفترض أن تكون عليه منذ البداية. أعاد فلاديمير بوتين أوروبا إلى زمن المجازر، المقابر الجماعية، مشاهد تهجير الملايين، الخوف من انقطاع غاز التدفئة، والذعر من الحرب النووية، البحث عن ملاجئ آمنة. لم يكن بوتين ليصل إلى هذه المرحلة من التمادي ومحاولة احتلال بلد آخر وتدميره بذريعة الرغبة في ضمانات أمنية، واعتراضاً على تمدّد حلف الأطلسي في حديقته الخلفية، لو لم يجر تجاهل حصيلة الضحايا ولائحة الجرائم والانتهاكات والفظائع في سورية التي لا تنتهي، ولولا أن بوتين ظنّ نفسه فوق أي محاسبة على ما اقترف في سورية عقدا كاملا. لكن سورية ليست أوكرانيا، ليس فقط بالمعنى السياسي والأمني والإنساني.
شكّل غزو أوكرانيا، بحكم موقعها الجغرافي في قلب أوروبا، حدثاً فارقاً في الغرب. لن تجد اليوم على الأرجح أوروبيين كثيرين ممن لا يعرفون ما يجري، لأنهم، بكل بساطة، تحولوا إلى متأثرين ولم يعودوا مجرّد مشاهدين أو غير مكترثين بما يحدُث في قارّة أخرى من بين تلك القارّات المليئة بالأزمات والحروب والمجاعة التي يتابعونها في الأخبار.
ستُعيد تطورات أوكرانيا رسم خريطة المشهدين الأمني والسياسي في القارّة العجوز عقودا طويلة، حتى القول إن قواعد جديدة للنظام العالمي قد ترسى ليس فيه كثير من المبالغة. وبقدر ما كانت روسيا تريد توظيف غزو أوكرانيا لفرض معادلاتٍ جديدةٍ تعزّز فيها موقعها وأوراق القوة بيدها بقدر ما كان يريد الغرب، على تفاوت، استغلال هذا الغزو لإضعافها وتحجميها قبل أن تأتي مشاهد بوتشا لتفرض واقعاً جديداً.
تنتظر روسيا، على الأرجح، وبحسب ما يعدّ الغرب، مزيداً من العقوبات القاسية. على نحو متأخر أدركت دول أوروبية عديدة أن الشراكة مع روسيا، وإغراءها بالمصالح الاقتصادية، وإن المتبادلة، غير كافية لإرضاء طموحات بوتين أو ردعه عن اتخاذ خطوات متهورة كغزو أوكرانيا. لكن هذه الدول، والتي تتقدّمها ألمانيا، عاجزة، في الوقت نفسه، عن التخلّي عن إمدادات الطاقة الروسية بسهولة، فهي تقيس ذلك من باب مصلحتها أولاً، وما ستخلفه من تأثيرات فورية ومتوسطة المدى عليها. ومع ذلك، لن تبقى في موقع المتفرّج والسماح بمجازر كهذه في قلب أوروبا يفترض أنها تخطّت أي خطوط حمراء موضوعة لفرملة العقوبات على روسيا.