متلازمة ترامب ومحاولة تفسير اللامنطقي

09 أكتوبر 2020
+ الخط -

هل هو مضطرب نفسياً؟ هل هو نرجسي؟ هل هو عديم الأخلاق؟ هل هو عنصري؟ هل هو سلطوي؟ هل اختُرِقَت الولايات المتحدة استخباراتياً عبره، سواء غباءً أو ابتزازاً، كما يخشى مدير مخابراته الوطنية السابق، دان كوتس؟ أم هو ذلك كله أو معظمه؟ تلك أسئلة مطروحة بقوة في الولايات المتحدة بشأن الرئيس دونالد ترامب، ولا يبدو أن أحداً إلى الآن يملك إجابة محدّدة، حاسمة ومقنعة، وإنْ كان من الواضح أن ثمَّة غالبية كبيرة بين الخبراء تعتقد بوجود مشكلة حقيقية، أو قل مشكلات، في هذا الرجل ولديه. 

ما أثار هذه الأسئلة التي لم تغب يوماً، منذ إعلانه الترشّح إلى الإنتخابات الرئاسية عام 2015، تعامله أخيراً مع نبأ إعلان إصابته بفيروس كورونا يوم الجمعة الماضي، ودخوله المستشفى في اليوم نفسه، ثمَّ خروجه يوم الأحد في جولة في سيارة مصفحة ليحيّي مؤيديه المحتشدين أمام المستشفى، من دون مراعاة سلامة حراسه الشخصيين المرافقين له، وهو الحامل للفيروس، وصولاً إلى إصراره على الخروج من المستشفى يوم الإثنين الماضي، وهو ما جرى. لم تقف الأمور عند ذلك الحد. نزل ترامب من المروحية التي نقلته من المستشفى إلى البيت الأبيض كبطل مزهو بانتصاراته، يسير بخيلاء أمام عدسات الكاميرات، ثمَّ خلع الكمّامة الواقية عن وجهه، وهو لا يزال مصاباً بالفيروس، ويُعَدّ مُعْدِياً، ودخل إلى أروقة البيت الأبيض ملوثاً الجو فيه. ولم يلبث أن بدأ يطلق تغريداتِه المضلّلة، ففيروس كورونا ليس أسوأ من الإنفلونزا، أما الدليل، فهو أنه أصيب به وهزمه!

تقف أميركا على أعتاب حرب أهلية وكارثة إنسانية، وكثير من شعبها مسحوقٌ تحت وطأة العدوى والركود الاقتصادي

طبعاً، لم يكلّف ترامب نفسه عناء مصارحة شعبه بحقيقة وضعه الصحي، فمنذ وصوله إلى الرئاسة، يجري التعامل مع ذلك على أنه "سِرٌّ من أسرار الدولة"، مع أن هذا لم يكن الحال في أميركا من قبل. أيضاً، لم يكترث ترامب بتنبيه القاعدة الواسعة التي تصدّق كل ما يقول، وتؤمن بأن ثمَّة مؤامرة من "الدولة العميقة" تستهدفه، من أن تحسّن وضعه الصحي السريع إنما هو نتيجة مباشرة لدخوله أحد أفضل المستشفيات في العالم (وولتر ريد)، وتمتّعه برعاية صحية لا تضاهى أميركياً وعالمياً، وإعطائه أدوية قوية وفعالة لم تتح لأكثر من مائتي ألف قتيل، وأكثر من سبعة ملايين مصاب أميركي بسبب جائحة كورونا. للمفارقة، يحصل ترامب على ذلك كله على حساب دافع الضرائب الأميركي، في حين أنه يسعى جاهداً إلى حرمان عشرات الملايين منهم التأمين الصحي! 

أثبتت سنوات رئاسة ترامب أنه أناني، ولا يكترث بغيره، حتى لأقرب الناس إليه، كما يقول كل من عرفوه قبل توليه المنصب، وقد أكّدت أخته وابنة أخيه ذلك أخيراً. وحتى لا نستطرد، فإننا نحصر الموضوع في قصته مع فيروس كورونا. أُعْلِمَ ترامب من الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، ومن مستشاريه، أن جائحة كورونا تتهدّد العالم والولايات المتحدة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ولكنه اختار تجاهل ذلك. ونحن نعرف اليوم أنه حين كان يجادل أن هذا فيروس موسمي سيختفي مع ارتفاع درجات الحرارة، وبأنه أقلّ خطورة من الإنفلونزا، فإنه كان يعلم أنه "مميت" و"قاتل"، وينتقل عبر الهواء، كما أخبر بذلك الصحفي الأميركي، بوب وودورد، في شهر مارس/ آذار الماضي. لم يستطع ترامب أن يكذب هذه المرّة، فوودورد نشر التسجيل الصوتي، ولكن ملك المراوغة لم تعيه الحيلة، فهو لم يكن يريد أن ينشر الفزع بين الناس!

ثمَّة شكوك قوية يطرحها خبراء، أن ترامب قد يكون علم أنه مصاب بالفيروس قبل الجمعة الماضية، وبأنه قد يكون هو من نقل العدوى لهيكس

بقية القصة معروفة، فقد انتشر الفزع بسطوة الواقع الأسود والحقيقة الصادمة. ملايين المصابين الأميركيين، وعشرات الآلاف من القتلى، وانهيار اقتصادي رهيب، وعشرات الملايين خسروا وظائفهم. لم يكن ذلك قدراً، بل كان نتيجةً مباشرةً لرعونة ترامب وأنانيته، فهو لم يكتفِ بإنكار المشكلة وتوجيه أصابع الاتهام إلى "مؤامرة" الديمقراطيين و"الدولة العميقة"، وكذلك تحميل المسؤولية لمنظمة الصحة العالمية والصين، بل الأدهى أنه لم يفعل شيئاً حيال ذلك، حتى وإنْ صحّت نظرية وجود مؤامرة. دخل ترامب في صراعٍ مع خبراء الأمراض المُعدية في إدارته، وحرّض الناس ضد الكمّامات الواقية وسياسات الوقاية من العدوى، وتحوّل طبيباً يدعو إلى علاجٍ الفيروس القاتل بالمنظفات المنزلية والأشعة! كل ما كان يهمه أن لا تتوقف عجلة الاقتصاد الأميركي بما يؤثّر في حظوظه الانتخابية، فكان أن توقفت تلك العجلة، وقتل عشرات الآلاف وأصيب الملايين، إذ قاوم كل محاولات وضع استراتيجية للتعامل مع الجائحة. وهكذا انتهت الولايات المتحدة، الدولة الأعظم والأكثر تقدّماً بؤرة للوباء، بل وحديث العالم سخرية واستهزاء. 

وفي سياق أنانية ترامب، وعدم اكتراثه بمن حوله ومؤيديه، بقي يصرّ على عقد تجمّعاتٍ انتخابية حاشدة، غالب حضورها من دون كمّامات، ومن دون التزام سياسات التباعد الاجتماعي. ولم يفعلون ذلك، ورئيسهم نفسه يحرّضهم على عدم الالتزام؟ فتلك "مؤامرة"! إصابة ترامب بفيروس كورونا فضحت طباع اللؤم والأنانية فيه. يوم الخميس، الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، علم ترامب أن نتائج فحص مساعدته اللصيقة به، هوب هيكس، أثبتت أنها مُصابة بالفيروس. وعلى الرغم من ذلك، سافر في المساء نفسه لحضور تجمّع انتخابي حاشد في نيوجرسي، وكالعادة لم يكن يضع الكمامة على وجهه. وفي اليوم التالي، أعلن ترامب أنه وزوجته مصابان بالفيروس، لتتوالى بعدها إعلانات الإصابة في البيت الأبيض، التي تجاوزت الأحد عشر (حتى كتابة هذه السطور)، فضلاً عن ثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ، وآخرين كانوا مدعوين إلى المؤتمر الصحافي الذي عقده ترامب في السادس والعشرين من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، في حديقة الورود في البيت الأبيض أعلن فيه ترشيح القاضية اليمينية، آمي كوني باريت، للمحكمة العليا مكان الليبرالية المتوفاة، روث بادر جينسبيرغ. حضر المؤتمر حشد كبير من مسؤولي إدارة ترامب وأعضاء في الكونغرس وضيوف آخرون. خلال المؤتمر نقلت عدسات الكاميرات التلفزيونية أن أغلب الحضور لم يكونوا يرتدون الكمامات، ولم يكن هناك تباعد بين المقاعد.

لم يكلف ترامب نفسه عناء مصارحة شعبه بحقيقة وضعه الصحي، فمنذ وصوله إلى الرئاسة ذلك "سِرٌّ من أسرار الدولة"

ثمَّة شكوك قوية يطرحها خبراء، أن ترامب قد يكون علم أنه مصاب بالفيروس قبل الجمعة الماضية، وبأنه قد يكون هو من نقل العدوى لهيكس، لا العكس، ومع ذلك بقي يختلط بمن حوله وبالناس من دون اكتراث، ومن دون تنبيه لهم. جاء ذلك في خضم تهديداتٍ يصدرها تباعاً بأنه قد لا يعترف بنتيجة الإنتخابات الرئاسية المقررة في الثالث من الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وتلويحه بالعنف إن خسرها. فضلاً عن الكشف أنه دفع 750 دولاراً فقط ضرائب، عامي 2016 و2017، فيما يدفع المواطن الأميركي العادي قرابة ثلث دخله السنوي. وقبل أيام، أعلن رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، وعدد آخر من كبار الجنرالات الأميركيين، أنهم سيخضعون للحجْر الصحي، بعد مخالطتهم جنرالاً آخر مصاباً. ويوم الأربعاء الماضي، أعلن ترامب أنه قرّر وقف المفاوضات مع الديمقراطيين في الكونغرس بشأن حزمة تحفيز اقتصادية أخرى، يحتاجها الأميركيون بشدة. والآن، يضغط ترامب على "وكالة الغذاء والدواء الأميركية" للتصديق على لقاح لفيروس كورونا قبل الانتخابات الرئاسية، على الرغم من أن التجارب السريرية لم تنتهِ بعد. بمعنى آخر، تقف أميركا على أعتاب حرب أهلية وكارثة إنسانية، وكثير من شعبها مسحوقٌ تحت وطأة العدوى والركود الإقتصادي وضبابية المستقبل، ومؤسساتها السياسية والعسكرية في حالة فوضى. ربما هذا ما يريده ترامب لاختطاف دورة رئاسية جديدة. وعلى الرغم من ذلك كله، ما زال عشرات الملايين من الأميركيين يؤيدونه! إنها متلازمة ترامب التي لا يمكن أن تجد لها تفسيراً منطقياً. 

باختصار، عندما لا يحترم القَيِّمونَ على الأمر الدستور والقيم التي يزعمونها، وعندما تنعدم المحاسبة ممّن هم مستأمنون عليها، وعندما يصبح تطبيق القانون انتقائياً، وعندما يغفل الناس عن حقوقهم ولا يدافعون عنها، وعندما يصبح المضطهدون محامين عن المجرم ذاته، وعندما تنهار الأخلاق.. عندما يحدث ذلك كله وغيره، حينها يحكم ترامب في بلاد مثل أميركا. أما في بلادنا، فحدّث ولا حرج. يبدو أن الأميركيين على طريق صنع طاغية، مثل طغاتنا وطغاة العالم.