متلازمة الحدود
الحدود خطوط وهمية، موجودة فقط على الخرائط. أما على الأرض فتبعا للوضع، إما يتم وضع علامات تشير إلى مكان وجودها أو أسلاك شائكة، وأحيانا أسوار، كما سور الصين العظيم، أو جدار عزل كما في الضفة الغربية، أو كالذي كان ترامب سيقيمه على حدود المكسيك. وبعض الحدود يتم فرشها بحقول الألغام. وللحدود وظائف كثيرة، منها تحديد منطقة سيادة هذه الدولة أو تلك، وحقها في الانتفاع من ثرواتها وغيرها من التفاصيل. أما في بلادنا فقد تحوّلت هذه الحدود إلى متلازمةٍ تبعث الرعب في نفوس مواطنينا، ففي حين لا تشكّل الحدود للمواطنين في دول كثيرة في العالم المتحضر، أو الدول التي تسعى في هذا الاتجاه، أكثر من نقطة عبور، تشكل لمواطنينا بوابة للرعب، حيث تشبه عودة مواطننا إلى وطنه عودة الابن الضالّ المرتبطة بمهانةٍ وحسابٍ على فعل لم يرتكبه على الأغلب. أذكر في أثناء عودتي عام 1994 إلى الوطن، بعد انتهاء دراستي، حين اطلع موظف الحدود على جواز سفري، ولم يُعده لي كما فعل مع الباقين، بل ناوله لشخص يقف مع مجموعة أفراد على حاجز قربه يشبه البسطة، قيل لي لاحقا إنهم ممثلو الفروع الأمنية، نظر فيه الأول وناوله للثاني وهكذا، حتى وصل إلى آخرهم الذي طلب مني أن أقف إلى جانب شخص آخر، كان يقف قرب بابٍ أطلقت عليه اسم الباب الأسود، حيث يُخرجون منه من يتم توقيفه. انتظرت حتى خرج جميع ركاب الطائرة، وقد مضى ما يقارب الساعتين على وقوفي قرب زميلي المجهول، قبل أن يحضر أحد رجال الأمن، ليطلب منه الدخول من الباب الأسود، ويسألني:
- ماذا كنت تفعل في الخارج؟ فأجبته: كنت أدرس وأنهيت دراستي وها أنا عائد... فمدّ يده مصافحا، وقال:
- أهلين فيك أبو حميد على أرض الوطن... يا له من ترحيب يقطع النسل بعد ساعتين من القلق.
عندما كنا طلابا، كان كثيرون منا قد خرجوا بشكلٍ يشبه الهروب، حيث حصلوا على جوازات سفر مؤقتة، تمكّنوا بواسطتها من الخروج للدراسة إلى دولة أجنبية، ثم تابعوا دراستهم هناك من دون جواز سفر، حتى انتهاء دراستهم، حيث يحصلون من السفارات على "ورقة تسهيل عودة". وكان هؤلاء غالبا ما يتم توقيفهم في المطارات. وقبل ذلك، وفي أثناء فترة الدراسة، كانت تراود بعضَهم منامات يرون فيها أنفسهم في الوطن، وهذا يفترض أن يكون مدعاة سعادة، كونهم زاروا الوطن. وفي الحقيقة، لم يكن الوطن يراودهم كأحلام جميلة، بل على شكل كوابيس، فغالبا ما يجد الطالب العالق في الحلم نفسَه غير قادر على العودة، لأنه لم يتمكن من الحصول على "عدم ممانعة"، وبالتالي سيخسر دراسته، فيستيقظ من نومه مصابا بالرعب، ولا ترتاح نفسه إلا بعد أن يشرب جرعة ماء، ويتلفّت حوله، ليطمئن أنه لا يزال في الغربة. ولا بد أن مثل هذه الكوابيس قد راودت كثيرين، خصوصا ممن ظن عند خروجه أن كل شيء سيتغير في غيابه. ولكن ساعة العودة دقّت من دون أن يتغير شيء، وتبدأ رحلة المعاناة من احتمال أن تكون كلمة تفوه بها قد وصلت إلى مسامعهم أو أن يكون أحد قد افترى عليه.
انتقلت متلازمة الحدود هذه إلى الدول الأجنبية، حيث أصبحت عملية استيقافنا على الحدود في مختلف الدول من أشكال هذه المتلازمة، فالموظفون على الحدود يدقّقون بك أكثر، بعضهم لأنك بالنسبة لهم مشروع إرهابي، وبعضهم لأنك مشروع لاجئ، وبعضهم من باب ردّ الدين. أما الجمارك فتتعرّض حقائبك عندهم لتفتيشٍ مضاعف، يجعلك تخشى أن يكون فيها شيء مريب فعلا. وليس من باب المصادفة أنني كلما سافرت إلى أميركا، أو عدت منها، أجد حقيبتي كُسر قفلها وفُتحت وتركت فيها ورقة، تفيد بأنها كانت من ضمن عينة عشوائية تم تفتيشها حفاظا على سلامتنا .. بئس الحدود التي تنقبض أنفاس القادم إليها، ويتنفس من يغادرها الصعداء. بئس الحدود التي تتحوّل من حدود للوطن إلى حدود على الوطن.