مبدعات ولكن معذّبات
ثمّة خصوصية وسحر يميّزان أفلام السير الذاتية، ويجعلانها مفضلة لدى الأكثرية من جمهور السينما، لأنها تقدّم للمشاهد المسترخي على أريكة مقابل الشاشة، في ساعتين على الأكثر، عمراً بأكمله، يعيش فيها خفايا حياة الشخصية موضوع الفيلم، منذ ولادتها وحتى ساعة الموت، وما بينهما من أحداث تراجيدية وتقلّبات وحالات صعود وهبوط وتحوّلات وأفراح وأحزان وألق وخيبة، فتشبع فضوله ورغبته في كشف الأسرار الدفينة التي لا يُفصح عنها بسهولة. وقد قدّمت "هوليوود" أفلام سيرة كثيرة، مأخوذة عن كتب ومذكّرات أصدرها أصحابها أو مقرّبون منهم، فاكتسبت صدقية وواقعية أكثر. وتصبح هذه الأفلام أكثر جاذبية وإثارة للاهتمام، إذا تناولت سير شخصيات نسائية، مثل فيلم "فريدا" الذي أنتج عام 2002 (أدّت الدور سلمى حايك) عن حياة الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، بعذاباتها الكثيرة من معاناة صحية وإحساس بالخذلان من زوجها، الرجل الوحيد الذي أحبته، واستمرّ في خيانتها وكسر قلبها.
وفي فيلم "ما علاقة الحب به" الذي يحكي قصة حياة مطربة الروك الأكثر شهرة تينا تيرنر، يضعنا صنّاعه في قلب مأساة تلك الفنانة الكبيرة التي أخفت سنوات طويلة حقيقة تعرّضها للضرب المبرّح والتعنيف الدائم والتسلط والسيطرة من زوجها السادي الغيور، بسبب صعودها الفني وشهرتها الواسعة، قبل أن تتمرّد على واقعها وتخرج من هيمنة (وتجبّر) الرجل المؤذي الذي عرقل، بأنانيته وقلة ثقته بنفسه، مسيرتها المهنية، فتحرّرت وتألقت وأبدعت واستردّت ذاتها لتصبح من أهم المغنين في العالم من حيث المبيعات، إذ تمكّنت من بيع ما يتجاوز مائتي مليون نسخة، وأكبر عدد من تذاكر الدخول لحفلات مغنٍّ فردي، وحازت ثماني جوائز غرامي، ولتتوج ملكة لـ"الروك آند رول" المطلقة لدى النقاد والجمهور.
وفي سياق مزيج الشقاء والمجد والثروة والشهرة والنهاية المأساوية، يمكن اعتبار فيلم "احترام" (2022) من أقوى أفلام السير الذاتية، وأكثرها تجسيداً للحقيقة. وقد تناول صعود مسيرة إريثا فرانكلين، المهنية، من طفلة تغنّي في جوقة كنيسة والدها إلى نجمةٍ عالمية وأيقونة موسيقى وعازفة بيانو وكاتبة أغانٍ وممثلة ذات موهبة أصيلة، وناشطة حقوقية مدافعة عن حقوق السود في الحرية والعدالة. يعرض الفيلم الحياة الصاخبة لنجمة الستينيات، أريثا. وقد أدّت دورها المغنية والممثلة الموهوبة، جنيفر هدسن، وبرعت في تجسيد الشخصية المركّبة ذات الروح المعذّبة، حيث تعرّضت للاغتصاب، وأصبحت أماً وهي في الثانية عشرة من عمرها، ما أدّى إلى إصابتها بكآبةٍ لازمتها طوال حياتها، وأوقعتها رهينة إدمان الكحول، ما أثر، في مرحلة ما، بعطائها الفني، غير أنها سرعان ما استجمعت قواها، وعادت إلى جمهورها أكثر قوة وصلابة.
من متابعة هذه النوعية من الأفلام، يسهل استنتاج أن معاناه النساء المبدعات واحدة في مختلف العصور والأماكن. هناك ملامح مشتركة عديدة لا يمكن إغفالها، حيث الطفولة غير الاعتيادية الصعبة، والتعرّض للغدر والخيانة والاستغلال، ثم النضج واكتشاف الذات وتحقيق النجاح والثروة. وغالباً ما كنّ يواجَهن بمعوّقات يسببها الرجل، غير القادر على تقبل تفوّقهن وتميزهن، إضافة إلى قسوة المجتمع وعدم تسامحه مع هفواتهن وتعثرهن وارتباكهن وحساسيتهن المفرطة، جرّاء تسليط الضوء على تفاصيل حيواتهن، في أثناء سطوع نجمهن، ما ينتهك خصوصيتهن بصورة دائمة، ويستنزف طاقتهن، ويؤدّي إلى يأسهن بعد انحسار الأضواء إثر ظهور نجمات أصغر سناً، فيصبح منجزهن طيّ النسيان، ويعتزلن الحياة أسيرات للحزن والخيبة، وينتهين دائماً وحيداتٍ، إلا من أرشيف ذكرياتٍ ليس سارّاً بالضرورة.