مباغتة النظام في حلب
يعود تاريخ آخر المعارك الكبرى في شمال سورية إلى فبراير/ شباط عام 2020. كانت قوات النظام منتشية، فابتلعت بسرعة مناطق منزوعة السلاح، جرى فيها الاتفاق بين تركيا وروسيا وإيران على وقف القتال في مايو/ أيار 2017 في ما سميت حينها مناطق خفض التصعيد. ونتيجةً للهجوم المتواصل، ولتخفيف هواجس الأتراك من زيادة تقدّم قوات النظام في تلك المناطق، جرى السماح لتركيا بإنشاء نقاط مراقبة، واعتمدت مسافة 15 كيلومتراً من أراضي المعارضة مناطقَ خالية من السلاح الثقيل. ولكن النظام وداعميه تجاهلوا مرة ثانية هذا الاتفاق، وتوغلوا عميقاً حتى الطرق الدولية الواصلة ما بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية على التوالي، ثم توقف كل شيء ليتفرغ النظام لحماية هذه الطرق، بعد أن كلفت تلك التجاوزات موجات هجرة كثيفة، زرع النظام ومحالفوه قواتهم على طول خطوط التماسّ الجديدة. ويبدو أن هذه القوات شعرت بأمانٍ مزيّف لتستيقظ فجر الأربعاء الماضي على هجوم المعارضة الواسع، ما جعلها تفر من دون أن تجد وقتاً لتأخذ معها بعض الأمتعة الضرورية، فتركت وراءها تجهيزاتها العسكرية وذخائرها وبعض الضباط الذين لم يتمكنوا من الاستيقاظ، رغم دوي القنابل، فوقعوا في الأسر بسهولة.
لم يبدُ أن القوات المهاجمة في طريقها إلى حلب وجدت إلا المواقع الخالية والأسلحة والذخائر المتروكة وجنوداً تأخّروا أو سهوا عن الانسحاب، فوقعوا مباشرة في يد القوات المتقدّمة، وتابع الرتل الهجومي طريقه حتى وصل إلى مشارف حلب، ولم يتردّد في دخول أحيائها وساحاتها..
اعتمد الهجوم محور أوتستراد دمشق حلب وصولاً إلى الطريق السريع المؤدي إلى قلب مدينة حلب، وفي نهاية اليوم الثالث للهجوم، جرى الاستيلاء على الطريق الدولي من نقطة خروجه من مدينة سراقب وصولاً إلى حلب، ما يعزل حلب تقريباً عن دمشق، وعلى أي قوات نجدة أو إمداد من النظام أن تستخدم طريقاً طويلاً يمرّ من خناصر وسفيرة وتل عرن. وتدلّ الطريقة التي تخلت فيها قوات النظام عن محيط حلب وأحيائها على أن العودة قد لا تكون مبكّرة، حيث فقدت قوات النظام معدّات وذخائر ومواقع كثيرة من الصعب تعويضها بسرعة، بالإضافة إلى خشية النظام من انفتاح جبهات أخرى من ناحية البادية التي تنتظر فرصة، ما يجعل النظام مضطرّاً لأن يتوقف قليلاً ليراجع مع حلفائه الخطوة التالية، وخاصة في وضع إيران المزري بعد خسارتها الواضحة في لبنان، وتكبيل يديها إلى الحد الأقصى، وبعد توجيه ضربات موجعة لها في الداخل السوري، ما يجعل ردود أفعالها دون الفعالية المطلوبة.
يوحي أسلوب تعامل المهاجمين من قوات النظام ومع السكان المحليين بأن للهجوم خطّة واضحة وطريقة جرى التفكير فيها بعمق قبل الإقدام على الهجوم، ويُلاحظ أن التوقيت جاء في لحظة مميّزة، فقد انتظر حتى أُعلن عن وقف إطلاق النار في لبنان، واتجه إلى سورية، مع تراخي قبضة إيران على الداخل السوري، وحتى على الوضع داخل لبنان، بالإضافة إلى استمرار الورطة الروسية في أوكرانيا، مع تغاضٍ تركي، وربما توجيه، جعل القوات المهاجمة تستفيد من الجهود التي قدّمتها المجموعات التي ترعاها تركيا بشكل مباشر، وهذه كلها عوامل لصالح الهجوم، وقد تبقى صالحة للاستفادة منها فترة طويلة.
رغم طبيعة القوى المتشدّدة التي تحكم الشمال السوري، إلا أنها تحظى بقبول لدى سوريين كثيرين، وبعضهم ممن لجأوا إلى دول الجوار، ما قد يشجّع مجموعات منهم على العودة إلى المناطق الجديدة التي سيطرت عليها الفصائل المعارضة في حلب وريفها، وخاصة الذين يشعرون بالإحباط نتيجة قلة الفرص وانعدام إمكانية الوصول إلى البلاد الأوروبية، وإذا تحقّق ذلك، وعاد عدد كبير من السوريين إلى بلادهم، فستكون فاتحة لتغيرات جديدة في بلد يحوي قوى عالمية عظمى وإقليمية كبيرة تتجاوز مساحته بكثير.