ما وراء الصدام المؤسساتي في المغرب
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
كشف الصدام بين الحكومة المغربية ومؤسستي بنك المغرب (البنك المركزي) والمندوبية السامية للتخطيط (الهيئة المركزية للإحصاء) أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المملكة ليس بخير، فالحقائق على أرض الواقع تعاكس ما يقدّم في نشرات الأخبار الرسمية أو يتداول على ألسنة الوزراء والمسؤولين الحكوميين. كما أظهر أن جوهر الاستقرار في المغرب؛ استقرار الأسعار، بات على كفّ عفريت، مع توالي موجات ارتفاع الأسعار، حتى وصلت نسبة التضخم إلى رقمين (10,1%)، في حدث لم يشهده المغرب منذ عام 1984.
فضلاً عن أن الخلاف المؤسساتي جرس إنذار للدولة برمتها، وليس فقط الحكومة، عن مخاطر مواصلة السير على هذا النهج، فالاستمرار في السياسات الحكومية الحالية مغامرة غير محسوبة العواقب. خصوصاً أن حكومة رجال الأعمال اختارت معاكسة التيار، فبدل إبطاء نسبة النموّ للتحكّم في التضخّم، على غرار نظيرتها في البلدان الأوروبية، فضلت الرهان على الرفع من نسبة النمو، بمواصلة التصدير طمعاً في عائداتٍ ضريبية تملأ خزينة الدولة، وخدمة لأقلية من المقاولات المحظوظة على حساب قوت أغلبية من المغاربة.
حاولت الحكومة جاهدة، على لسان مسؤوليها أو عبر منابر إعلامية تدور في فلكها، إقناع المواطنين المغاربة، بالطابع الاستثنائي لارتفاع الأسعار، فتنوّعت فنون التبرير حتى باتت مادّة للتنكيت والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد قيل الشيء ونقيضه في معرض التعليل، فرأي يربط الأمر بارتباك تموين الأسواق، نتيجة التغيّر في العادات بسبب المناسبات (شهر رمضان، عيد الأضحى...). وآخر يردّه إلى اهتزاز سلاسل التوريد، على الصعيد العالمي، جرّاء تداعيات الحرب في أوكرانيا. وثالث يجعل من المعضلة المناخية (ظاهرة الجفاف) مشجباً يعلق عليها الزيادات المتلاحقة في الأسعار، فالموجة عالمية، والمغرب ليس استثناء.
القول بالطابع المناسباتي للغلاء غير سليم، لاستمرار ارتفاع الأسعار، ما يعني أن التضخّم أضحى بنيوياً وليس حدثاً طارئاً وظرفياً
مهما تعدّدت دفوعات الحكومة تبقى غير مقنعة، بالنسبة لشريحة عريضة من المواطنين، فالقول بالطابع المناسباتي للغلاء غير سليم، لاستمرار ارتفاع الأسعار، ما يعني أن التضخّم أضحى بنيوياً وليس حدثاً طارئاً وظرفياً. واستدعاء الحرب من أجل التبرير لا يستقيم في هذه الحالة، لأن الارتفاع شمل سلعاً ومنتجات محلية، مثل الخضراوات والفواكه والمواشي والدواجن. وتسقط الحكومة في تناقض فج من دون وعي بذلك، حين تربط الأمر بظاهرة الجفاف، لأنها ما فتئت تشيد بالأداء الجيد لمؤشّر الصادرات المغربية من مواد فلاحية نحو الخارج، ما دفع كثيرين إلى السخرية والتهكم بـ"اتهام" الجفاف بالانتقائية، فآثاره منحصرة على المواد الموجهة للسوق المحلية دون الأسواق الأوروبية.
تضع هذه المعطيات السياسة الفلاحية (الزراعية) في المملكة، وفي مقدمتها مخرجات مخطط المغرب الأخضر، تحت الأضواء، وتكشف حقيقة الوعود التي قدّمها رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، للمغاربة، حين تولى حقيبة وزارة الفلاحة قرابة 15 عاماً؛ منذ حكومة عباس الفاسي عام 2007، حول مخطط المغرب الأخضر الذي أشرف على تنزيل مقتضياته، في الحكومات الثلاث المتعاقبة. (راجع مقال الكاتب "المغرب الأخضر وأكذوبة الأمن الغذائي" في "العربي الجديد" (17 مايو/ أيار 2022) فالظاهر أن سياسة المخطط أولت العناية للزراعات التصديرية ذات الإنتاج الكبير قصد الرفع من القيمة، على حساب الزراعات المعيشية للمواطنين البسطاء، ما دمّر الثورة المائية للبلد (حالة إجهاد مائي)، وقد حان أوان دفع ثمن التركيز على الكم من دون الأخذ بعين الاعتبار الكيف.
وتُساءَل مساءلة حقيقية، اعتماداً على متغيرات واقع عيش المواطن المغربي، حكومة رجال الأعمال التي بدت شبه عاجزة عن ضمان استقرار الأسعار وخفض التضخم، متّهمة الوسطاء والمضاربين بالعمل على استفحال الأزمة. (راجع مقال الكاتب "حكومة أخنوش... منطق الأعمال يخفق في السياسة" في "العربي الجديد" (16 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) وتحديداً رئيس الحكومة، باعتباره المسؤول الأول عن مخرجات مخطط المغرب الأخضر، حين كان وزيراً للفلاحة (2007 - 2021)، والمسؤول الأول من موقعه رئيساً للسلطة التنفيذية عن السياسة المالية الموجّهة نحو إغناء المقاولات الكبرى على حساب القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة.
أثبتت تجربة رجل الأعمال عزيز أخنوش في رئاسة الحكومة أن تسيير الدولة بمنطق المقاولة أو الشركة غالباً ما يكون ذا مفعول عكسي
ما سبق دفع المندوب السامي للتخطيط (مؤسّسة رسمية) إلى تحذير الحكومة من تزييف الحقائق، معترضاً على ما يتردّد من أقاويل تعتبر أن "التضخّم في غالبه مستورد، والجزء القليل منه محلي"، فاحترام وعي المغاربة يستدعى مصارحتهم بالحقيقة كاملة، والتي تفيد بأن زيادة الأسعار التي ستصبح هيكلية في المغرب، غير مرتبطة بتقلبات الأسواق الدولية بقدر ما هي نتاج ارتفاع أسعار السلع المنتجة محلياً، ما يحتّم الاستعداد لمواجهة معضلة التضخّم. كل ذلك ينذر، بحسب المسؤول السامي، بانقراض الطبقة المتوسّطة، فسياسة الحكومة الحالية سائرة باتجاه الاندحار الجماعي لكل الفئات الاجتماعية باستثناء الفئة الناجية العليا.
يقدّم الصدام المؤسساتي الحاصل في المغرب، جراء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، درساً بليغاً في السياسة، بإظهار الفارق بين رجل الدولة (والي بنك المغرب، المندوب السامي للتخطيط) صاحب الدربة والحنكة الذي يعتمد الواقع الاجتماعي والأثر في الواقع، معياراً لقياس مدى جدوى مخطط وفاعلية سياسة ما، وبين رجل الأعمال أو التكنوقراطي الذي يرتدي جبّة السياسي، بغرض الدفاع عن مصالحه، كلما اقترب الموسم الانتخابي، من دون أن يمتلك النزر اليسير من أدوات السياسي ومنطقه في الإدارة والتسيير والتوقّع.
ختاماً، لقد أثبتت تجربة رجل الأعمال عزيز أخنوش في رئاسة الحكومة أن تسيير الدولة بمنطق المقاولة أو الشركة غالباً ما يكون ذا مفعول عكسي، فنجاح رجل الأعمال في عالم الاقتصاد أو الخبير التكنوقراطي في مجاله لا يضمن تحقيق النتيجة نفسها عند خوض غمار السياسة، فأرقام الاقتصاد ومؤشّراته غيرت تفاعلات قواعد اللعبة السياسية داخل الدولة، ما يجعل الحاجة ماسّة، في هذه الظرفية الحرجة بالمغرب، إلى "رجال الدولة"، وليس "رجال الأعمال".
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.