ما هو ثابتٌ ضدّ الصين دولياً وعربياً
الفارق الأساسي في حالة العداء الأميركي ضدّ الصين، بين ولايتي الجمهوري دونالد ترامب (2017 - 2021) والديمقراطي بايدن (2021 - 2024)، أنّ الأول سعى إلى مواجهة طموحات بكين بنفسه، بينما عمل الثاني لقيادة تحالف دولي ضدّها. وهذا يعني أن التغيير في حاكم البيت الأبيض خلال الشهور المُقبلة قد يُحدِث بعض التغييرات في الصراع الأميركي الصيني الدائر بشراسة، لكنّه كذلك سيُبقِي بعض الملفّات من دون تغيير.
صحيحٌ أنّ إجراءات بايدن ضدّ الصين بدت أكثر فعّالية، في مستويات الحشد العسكري في شرق آسيا، وإحياء التحالفات القديمة في المنطقة، وإعادة صياغتها لمواجهة بكين، وإذكاء حالة العداء ضدّ تايوان للإيهام بأنّ الصين توشك على غزوها، كذلك الضغط السياسي على وجود الصين لإعاقة توسيع علاقاتها الحسنة في مناطق متعدّدة من الدول النامية، فضلاً عن الإجراءات التجارية التي تنوّعت بين حظر الاستثمار في مجالات التكنولوجيا الفائقة في الصين، والسعي إلى منع تطويرها الأجيال الجديدة من الرقائق الإلكترونية، وصولاً إلى الضغط على الحلفاء الأوروبيين للحدّ من انتشار الصناعات الصينية الحديثة، وفي مقدّمتها السيارات الكهربائية، بدعوى مواجهة سياسة الإغراق الصينية. هذا صحيح كلّه، لكن ترامب بدا أكثر قدرة في اتخاذ القرارات الفورية لمواجهة الصين، في مقابل محدودية نجاح بايدن في تشكيل ذلك التحالف الدولي ضدّ الصين، الذي كان يطمح له مكتفياً بحشد حلفائه التقليديين في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ، وهذا يشي بأنّ عودة ترامب بعد ما قام به بايدن خلال السنوات الثلاث الماضية سيوفّر له أرضيةً صالحةً للذهاب بعيداً في مواجهة الصين تجارياً وسياسياً، وربّما عسكرياً إذا دعت الحاجة.
الولايات المتّحدة تسعى إلى عرقلة التقارب العربي الصيني إذا كان يهدّد المصالح الاستراتيجية لها أو لإسرائيل
يُجمع الجمهوريون والديمقراطيون، إذن، على مواجهة الصين. صحيحٌ أنّ إدارة بايدن هي التي صاغت "استراتيجية الأمن القومي الأميركي" على قاعدة الردع المتكامل ضدّ الصين، لكن ذلك الردع كان وسيظلّ لسان حال إدارة ترامب سابقاً ولاحقاً، إن عاد إلى كرسي الرئاسة. ثمّة، إذن، بعض الاختلافات بين الحزبين في كيفية إدارة الصراع في مقابل نقاط إجماع وافرة، يمكن عدّها ثابتة ضدّ الصين في سياسة الولايات المتّحدة خلال السنوات الأربع المُقبلة، ويمكن استخلاصها من نقاشات الكونغرس الأميركي وتوصياته في شأن الصين:
يُجمع الحزبان الجمهوري والديمقراطي على أن الصين تسعى إلى مراجعة النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة الأميركية السوفييتية، قبل أزيد من 30 سنة، بحيث يصبح هذا النظام أكثر ملاءمةً لمصالح الصين، وأن تعترف الدول بالمكانة الجديدة التي تشغلها الصين في العالم، بفضل نجاحاتها الاقتصادية الهائلة. وهو النظام الذي تسمّيه الصين "مجتمع المصير الإنساني المشترك".
يُجمع الحزبان على أن الصين باتت أكثر عدائية في تحقيق مصالحها الدولية منذ اتباع مبادرة الطريق والحزام، من خلال سعي الصين إلى تقييد قدرة الدول المصدّرة على الوصول إلى الأسواق الدولية التي تسيطر عليها، مقابل تمكن الصين من الوصول بحرّية إلى مختلف الأسواق العالمية، عبر إبرام اتفاقيات نوعية من خلال مبادرة الطريق والحزام، تمنحها السيطرة على الموانئ ومعابر التجارة الدولية.
ينظر الحزبان بقلق إلى لجوء الصين إلى إقامة منظمّات دولية جديدة تستثني من عضويتها الولايات المتّحدة والقوى الأوروبية. كذلك إلى اتساع حضور الصين في أفريقيا عسكرياً واقتصادياً وتقنياً. وهذا يعني أنهما يُجمعان على ضرورة الحدّ من اتساع نفوذ الصين بين دول العالم النامية، التي تسمّيها الصين "دول الجنوب العالمي"، وتعتبر أن لديها قضية مشتركة لمواجهة سياسات "الشمال".
كذلك ينظر الحزبان بقلق تجاه ارتفاع اعتمادية الولايات المتّحدة على الواردات الصينية خلال العقود السابقة، خصوصاً في مجال الخدمات الأساسية، بما فيها الخدمات الطبية والعلاجية، ويُجمعان على ضرورة تقليل هذه الاعتمادية. ويتبع الحزبان رؤية موحّدة في ما يتعلق بمسائل الأمن القومي الأميركية المرتبطة بالتكنولوجيا، وينظران إلى الصين باعتبارها تشكّل خطراً على الولايات المتّحدة في هذا المجال.
الآن، ما هو الثابت ضدّ الصين في شأن العلاقات العربية الصينية التي نمت نموّاً ملحوظاً خلال آخر سنوات، وأبرزها بين السعودية والصين، على غير رغبة إدارة بايدن؟... القاعدة الأساسية أنّ الولايات المتّحدة تسعى إلى عرقلة التقارب العربي الصيني إذا كان يهدّد المصالح الاستراتيجية لها أو لإسرائيل. لكنّ العلاقات الحالية بين الصين والدول العربية لم تبلُغ مثل تلك المرحلة. مثلاً، انخراط الدول العربية في مبادرة الطريق والحزام لم يساعد على توطين صناعات تحويلية تستعمل المواد الخام العربية لتطوير الصناعات المحلية، وتشجيع الصادرات العربية بوضوح، سوى بعض البوادر في العلاقات الاقتصادية مع السعودية، والتي ما يزال من المُبكّر الحكم على نتائجها. وتبدو الصين أكثر اهتماماً بالمشروعات الاستراتيجية التي تضمن نفوذها الاقتصادي، مثل الموانئ وطرق النقل.
لا تنظر أميركا إلى العلاقات العربية الصينية من زاوية المصالح العربية فقط، بل بشكل أكثر اهتماماً من زاوية المصالح الصينية
لكن هذا ليس كلّ شيء، فالولايات المتّحدة لا تنظر إلى العلاقات العربية الصينية من زاوية المصالح العربية فقط، بل تنظر إليها بشكل أكثر اهتماماً من زاوية المصالح الصينية، وستكون حريصةً على أن لا تُؤدّي العلاقات العربية الصينية إلى خدمة مصالح الصين الاستراتيجية، كأن تصبح الأسواق العربية طرفاً فاعلاً في حرب الدولار واليوان، فتصبح العملة الصينية مقبولة للتبادل التجاري معها، كذلك أن لا يتحوّل البترول الذي تبيعه الدول العربية إلى الصين سلعة استراتيجية؛ أي أن لا تسعى الدول العربية إلى مقايضة البترول مع التكنولوجيا العسكرية مثلاً، وأن يبقى في مربّع التبادل التجاري فحسب.
لا ريب أنّ طبيعة العلاقات العربية مع الصين محكومة للقرار السياسي أكثر ممّا هي متعلّقة بالمصالح الاقتصادية، ما يعني أنّ الدول العربية لا بدّ أن تراعي خلال السنوات المقبلة طبيعة علاقاتها مع الإدارة الأميركية الجديدة، فقد أدّى تخفيف الولايات المتّحدة اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط منذ بداية عهد بايدن إلى توثيق الدول العربية الرئيسية علاقتها بالصين، وهكذا يمكن أن تقود عودة ترامب، أو سياسات كامالا هاريس، إلى عودة التقارب مع واشنطن على حساب مستقبل العلاقة مع بكين.