ما هو القرار الفلسطيني ... والأردني؟
ما يريده الإسرائيليون واضحٌ تماماً، وأجندة الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الكيان لا تخفى على أحد، حتى التيار العلماني النائم منذ فترة طويلة هناك استيقظ وحاول الانتفاضة على هذه الحكومة التي تهدّده من الداخل. وقبل أيام، دخلت قوات الاحتلال وارتكبت مجزرة كبيرة، فيما كانت ردود الأفعال الدولية سيئة للغاية، تتجنّب إلى أبعد مدى إدانة العملية الدموية، وردود الأفعال العربية التي أصبحت معتادة متحفظة، وربما بعضها يبارك (سرّاً، بدعوى أنّ الفصائل الجديدة مثل عرين الأسود في نابلس وأسود جنين تهدّد حالة "الهدوء")، وحتى السلطة الفلسطينية باتت توصف من مؤيديها وخصومها على السواء بالعجز والضعف، وبعض مؤسّساتها معروف بالتواطؤ ضد عمليات المقاومة!
اللافت أكثر في الردود الدولية أنّ لا أحد، على الإطلاق، بات يذكر العملية السلمية، اختفت من القاموس الدولي، بل بدأت التصريحات الأميركية والغربية عموماً تستخدم مصطلحاً جديداً، هو "عودة الهدوء"ّ، فلم يعد هنالك أصلاً أيّ مشروع مطروح للتسوية السلمية، وبات مصطلح "الهدوء" عنواناً حقيقياً للأجندة الإسرائيلية التي تمكّنت من قيادة العالم الغربي وراءها، بأن ألغت عملياً الحقوق الفلسطينية المشروعة!
في المقابل، لا توجد أي رؤية استراتيجية فلسطينية، لا على صعيد السلطة ولا حركة حماس ولا الفصائل، في مواجهة المسار الراهن ومآلاته الواضحة في الإسراع بتنفيذ المشروع الصهيوني على الأرض، وإعدام خيار الدولة الفلسطينية وتحويل السلطة الفلسطينية إلى جهازٍ أمني في كانتونات وغيتوهات معزولة وطاردة للبشر، هذا إذا تجنّبنا خيار الترانسفير (التهجير) في حال حدوث انفجار كبير في الأراضي الفلسطينية.
هل يملك الفلسطينيون ضمن هذا الانهيار في موازين القوى الدولية والإقليمية والتعقيدات الداخلية أن يضعوا استراتيجية؟ يطرح هذا السؤال، بالمناسبة، سياسيون عرب، والجواب بالتأكيد نعم، لأنّ العمل الفدائي والمسلّح والمقاوم، من دون تنظيم وإطار سياسي واستراتيجي وأهداف واضحة لرسملة التضحيات السياسية ضمن مشروع وطني فلسطيني، سيكون تضحيات بلا هدف ولا معنى. وقد ميّز الباحث الفلسطيني هاني المصري بعمق، في مقالته في موقع المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات، بين سيناريوهَي الانفجار والانتفاضة، فالأول يأتي نتيجة مطردة لتسارع الأحداث، والثاني يرتبط بخطّة استراتيجية وأهداف سياسية واضحة.
ثمّة أسئلة أساسية مفتاحية، من الضروري التوقف للإجابة عنها في ترسيم المرحلة المقبلة، والعمل على بناء تصوّر للتحدّي والاستجابة. الأول، إلى أي مدى يمكن بناء حالة فلسطينية كفاحية تستعيد الخيارات والموارد البشرية والسياسية والمالية في مواجهة السيناريو الإسرائيلي؟ ومن يمكن أن ينخرط في هذه الحالة؟ مع الأخذ بالاعتبار أنّ هنالك وضعاً قائماً مرتبطاً بالسلطة ومصالح شخصية ومالية للقيادات السياسية والأمنية فيها ورواتب موظفين وأجهزة أمنية، وغيرها من حالة مركّبة على مشروع انتهى لا تزال قائمة، وارتبطت فيها حياة الناس اليومية؟ في ضوء هذا الواقع، هنالك ضرورة لقراءة معمّقة لمن يمكن أن ينخرط في حالة وطنية نضالية جديدة، وترسيم أهداف هذه الحالة وأبعادها وقاعدتها الاجتماعية التي يمكن أن ترتبط بها؟ وفي ضوء ذلك، يمكن الوصول إلى حسم الخيار الاستراتجي الفلسطيني؛ هل نستطيع مغادرة هذه الحالة والمصالح المتشابكة فيها، وهل يرغب الناس في ذلك؟ وهل يمكن أن نتحمّل ثمن قرار فلسطيني مجتمعي ــ شبابي بعدم السماح بإنهاء الحق الفلسطيني والاستسلام للمسار الإجباري الإسرائيلي الراهن أم لا؟
من الضروري أن تشرّح مثل هذه القراءة المعمّقة حالة السلطة والأطراف المختلفة فيها والفصائل الفلسطينية ووضع غزّة والقوى المتعددة وخريطة الاتجاهات والمصالح.
وعلى الصعيد الأردني، نحن أمام تيارين رئيسين: يرى الأول خطورة الحكومة الإسرائيلية الحالية، ويدعو إلى التصعيد الديبلوماسي معها، ودعم السلطة الفلسطينية، ولا يتجاوز ذلك إلى ما هو أهم، ما هي الخيارات والمصالح الاستراتيجية الأردنية لمواجهة سيناريو الكيان المعادي للمصالح الاستراتيجية والأمن الوطني الأردني؟ وبالتالي، هذا الخط جيّد من ناحية مبدئية، لكنه غير كافٍ. وفي المقابل، هنالك اتجاه آخر يحذّر من التمادي في المواجهة الديبلوماسية مع إسرائيل، ويرى أنّ المصلحة الأردنية تكمن بعدم الانجرار إلى سيناريو صِدام، حتى لو كان سياسياً فقط، وأن يمشي بخطىً متقاربة مع دول عربية أخرى، وألّا يدخل في معركةٍ ليست معركته، لأنّ لدى هذا الاتجاه رمداً شديداً لا يستطيع رؤية حجم التداخل والاتصال بين المصالح الأردنية والفلسطينية على السواء.