"ما عليييش" لوائل الدحدوح... بلاغة القهر والنصر

27 أكتوبر 2023
+ الخط -

منذ يوم السّابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الأغرّ، ونحن نشهد طوفانا من كلّ شيء، أخلاطا من كلّ شيء: مفاجآت، انتصارات، بطولات، تحدّيات، إصرارا، هشاشة، جرائم إرهابيّة صهيونيّة، قنابل، غارات، رشقات، شهداء، رهائن، قتلى، جرحى، أشلاء، مقابر مفتوحة، وجوها شاخصة مُعفَّرة بالغبار والدّم، دموعا، خرابا مُعمَّما، فضائح أخلاقيّة، صمتا، ثرثرة، دعما، خذلانا، ... هي أخلاط طوفانيّة لا نكاد نُحيط منها إلاّ بالقليل القليل.

ومنذ ذلك اليوم، غمر المشهدَ حولنا طوفانٌ من الخطابات بأجناس مختلفة: أقوال: خطب، تصريحات، بيانات، إفادات، تقارير، صور، كاريكاتور، رسوم، فيديوهات... هي خطاباتٌ أنتجها فاعلون في مواقع شتّى: من قلب الحدث في غزّة، وفي أطرافها داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ومن مواقع شتّى: رسميّة وغير رسميّة من أهل الوطن ومن عدوّه، وفي أحوال شتّى: قبل الغارات القاتلة، وفي أثنائها، وبعدها. ولعلّ هذا كله يحتاج إلى تدبّر ونظر من زوايا مختلفة تليق بهول الموقف وأبعاده جميعها.

قال الصّحافيّ الفلسطينيّ مراسل قناة الجزيرة في غزّة، وائل الدحدوح، وقد كان جاثيا على ركبتيه مودّعا جثمان الشهيد ابنه الّذي كان ضحيّة عدوان غادر استهدف منزلا نزح إليه مع والدته وأخته وعدد آخر من أفراد عائلته صاروا شهداء في مخيّم النُّصَيْرات وسط القطاع يوم 25/ 10/ 2023: "بينتقموا منّا في الأولاد... ما عليييش...". وسريعا اختُصِر قوله في عبارة: "ما عليييش...".

كلام وائل الدحدوح، على قِلَّته، كان تأبينا مُكثَّفا لما يمكن أن يُقال في مثل هذا الموقف الجَلل

لن نذهب بعيدا إن قلنا إن هذه العبارة الآسِرة التي انتشرت بسرعة النار التي تأتي على غزّة، ليست من كلام وائل الدّحدوح وحده، وليس المعنيّ بها أفراد أسرته الشّهداء وحدهم، وإنّما هي كلام أجيال متعاقبةٍ ممّن جثوا على رُكَبِهِم يودّعون أحبّاءهم شهداءَ في جميع الأراضي المحتلّة بلا استثناء. ثمّ إن هذه العبارة الساحرة، ليست من الكلام المدبَّر سلفا المفكَّر فيه بعناية ليُقال أمام العدسات، وإنّما هو كلام مُبيَّتٌ متوارَثٌ جيلا بعد جيل يخرج كالحِمَم المخبوءة في الصّدر، يُرشَق به القَتلةُ في أعراس العزاء في كلّ حين.

وليس يخفى أيضا أنّ كلام وائل الدحدوح، على قِلَّته، كان تأبينا مُكثَّفا لما يمكن أن يُقال في مثل هذا الموقف الجَلل، ومُكثِّفا في آن واحد لحالة اختلط فيها الوجع والتحدّي والأمل. ومن هذه الناحية، استوفت هذه الزفرةُ شرائط الإيجاز المطلوب في البلاغة؛ فقد قال وائل الدّحدوح الكثيرَ باليسير من اللّفظ، وخاطب به العقولَ والقلوب في آن واحد.

ومهما تعدّدت الدلالات المحتَملة لعبارة: "ما عليييش..." في ملابسات استعمالها الكثيرة، فإنّها ليست في سياقات "طوفان الأقصى"، وما سبقه من معارك بطوليّة إلاّ من العبارات الّتي تُصنَّف في بلاغتنا العربيّة ضمن الإنشاء الإيقاعيّ (أو الأفعال الإنجازيّة بلغة أهل البلاغة في عصرنا). فهي من باب الكلمات التي إذ تُقال لا يُراد منها وصفٌ لحالة الكون في الخارج، أو تصوير لأشيائه الحاصلة سلفا قبل القول. وإنّما القصد منها أن يقترن القولُ بالفعل، فيتحقّقَ، ويكون مُنجَزا غير مؤجَّل. وعندها لن تعني هذه العبارةُ الموجَزة وصفًا يُخبر عمَّا يُرى ويُسمَع، أو أسفًا على ما فات، أوتحسّرا على مفقود، وإنّما المُراد منها قَصدٌ واحد دون سواه: "نقاوم دوما، وننتقم، وننتصر في كلّ حين. وحينئذ يكون مفاد هذه العبارة: وعدٌ حاصِل من الصادقين، ووعيدٌ واقعٌ للمجرمين.

صارت عبارة "ما عليييش... " رمزا، وأيقونة أخرى تُضاف إلى بنكٍ من الأقوال التي لَهَج بها، على مدى عقود من الاستعمار الوحشيّ، شعبٌ يعرف مخارج الكلام ومنتهاها

أمّا بعد، فقد صارت عبارة "ما عليييش... " رمزا، وأيقونة أخرى تُضاف إلى بنكٍ من الأقوال التي لَهَج بها، على مدى عقود من الاستعمار الوحشيّ، شعبٌ يعرف مخارج الكلام ومنتهاها، ويدرك وظيفتها في الكشف عن الأحوال، وانصرافها إلى الأفعال.

أمّا بعد مرّة ثانية، فقد صارت عبارة "ما عليييش... " مفتاحا آخر من مفاتيح بيوت كثيرة معلَّقة في قلوب المهجَّرين قسريّا، خَبِرَ أصحابُها دروبَ العودة ومسالكها التي وطئها أجدادهم وآباؤهم منذ تركوا تلك الأبواب مُشرَعَة على شوارع أملِ أن يكونوا فيها قريبا، ولا شكّ في ذلك، كما كانوا فيها منذ قرون.

أمّا بعد مرّات أخرى ولن تتناهى، فقد صارت عبارة "ما عليييش... " عنوانا يختزل مراحل كثيرة من الوعد والوعيد في تاريخ شعب الجبّارين، وتاريخ شعوب أخرى توّاقة إلى التحرّر بأتمّ معنى الكلمة.

نشرتُ قبل أيّام ثلاثة أبيات قالها الشاعر التونسيّ أبو القاسم الشابيّ من قصيدته" فلسفة الثعبان المقدّس" في ديوانه "أغاني الحياة" يوم 20 أغسطس / آب سنة 1934 اعتبرتُها، وما زلتُ، من عناوين بلاغة المقاومة، وها أنا أجدها الآن وهنا لائقة بمقام: "ما عليييش..." وأخواتها:

ولتشهد الدنيا التي غنّيتُها/ حلمَ الشباب وروعة الإعجاب

إن السلام حقيقةٌ مكذوبة/ والعدلُ فلسفة اللهيبِ الخابي

لا عدل، إلا إن تعادلت القوى/ وتصادم الإرهابُ بالإرهاب

وهذا شيءٌ آخر من سِفْر بلاغة القهر والنصر...

محمد الشيباني
محمد الشيباني
خبير لغوي تونسي، معجم الدوحة التاريخي للغة العربية