ما المقصود بشعب المواطنين
كل ما آمنت به وما أناضل من أجله يتلخّص في ثلاث جمل: شعب المواطنين، دولة القانون والمؤسسات، اتحاد الشعوب العربية الحرّة.
سنختزل مفهوم شعب المواطنين في أهمّ المؤشّرات التي تبلور وجوده على أرض الواقع. ولأنها كلّها على القدر نفسه من الأهمية، فلنتصوّرها كنقاط الدائرة التي لها المسافة نفسها من المركز، وهو في صورتنا هذه المصلحةُ العليا للشعب بكل مكوناته، على تناقضاتها وصراعاتها.
- شعب المواطنين هو الشعب الذي يملك دولتَه وليس العكس. كيف؟ المِلكية هي حقّ التصرّف بكامل الحرية في الشيء المملوك، سواء كان عبدا في وضعية العبودية أو أرضا أو مصنعا أو مجرّد بيت. من أين لشعبٍ، بالتعددية التي رأيناها، القدرةُ على التحكّم بمنتهى الحرية في دولة تسيّرها مؤسساتٌ ومواردُ وقوانين بالغة التعقيد، وتتخاصم على التحكّم فيها جماعاتٌ سياسيةٌ ذات رؤًى ومطامحَ متناقضة؟ ما نعنيه بملكية شعب المواطنين للدولة قدرتُه في لحظةٍ ثوريةٍ على افتكاك مراكز القرار والتحكّم في آليات توزيع الثروة والسلطة والاعتبار، أيْ تأميم هذه الدولة أطول فترة ممكنة، لتكون أداةً في خدمة المصالح العليا للأغلبية وفق أعلى القيم، لا مِلكا خاصا في خدمة الأقلية وفق أخسّ الأطماع وبأقذر الوسائل.
شعب المواطنين هو الشعب الذي يملك دولتَه وليس العكس
- شعب المواطنين هو الشعب الذي تَمكّن جلُّ أفراده عبر التنظيم الذاتي الخارج عن سيطرة الدولة، ولو أنها الدولة الديمقراطية المهدّدة في كل وقت من داخلها ومن خارجها، وعبر النشاط المجتمعي المكثف، والمشاركة في كل آليات أخذ القرار وتنفيذه وتقييمه على كل مستويات الحياة العامة وفي كل مجالاتها، من مواصلة الضغط لفرض أقصى قدرٍ من المساواة في توزيع الثروة والسلطة والاعتبار، حتى يكون الفتات من نصيب "النخبة"، وجلُّ الوليمة من نصيب الذين تعوّدَت تلك النخبة على استنزاف خيراتهم والضحك على ذقونهم.
- شعب المواطنين هو الشعب الذي قبِلت الأغلبية الساحقة فيه بأنه تَعدّدي أو لا يكون. هو الشعب الذي تَرك لأقليةٍ عنيفةٍ وغبيةٍ مواصلةَ التمسّك بوهم العنصر النقيّ الأصل، الذي يجب العودةُ إليه وتخليصُه من تراكماتِ (قُل من شوائب) التاريخ. هو الشعب الذي تَعلّم جلُّ أفراده تصريف مشكلات تعدّديتهم سلميا، لا يُمارِس جزءٌ منهم، ولو كان الأغلبية، أيّ وصاية أو إقصاء على المكوّنات الأخرى، والفيصل في كل النزاعات الطبيعية والمسترسلة قيمٌ مشتركةٌ وقوانين مهمتُها الأساسية إيصال الحقوق لأصحابها من دون أدنى تمييز.
- شعب المواطنين هو الشعب الذي ترى جلَّ أفراده غيورين أشدّ الغيرة على حقوقهم الفردية والجماعية. لا أحد منهم يقبل أن تُمسّ كرامته أو أن يعتدي جارٌ أو نظام سياسي على حقه في الحياة الخاصة، أو أن يُحرَم من كل الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الذي قرأه أكثر من مرّة)، أو أن يُعتدى على الحريات المضمنّة في الدستور (الذي يحتفظ بنسخة منه في بيته يعود إليها كلما حَدثت أزمةٌ سياسيةٌ في البلاد). لكن الخاصية المكمّلة لهذه الغيرة الشديدة على الحقوق والحريات وعيٌ تامٌّ وانضباط كلي لقاعدة: الحقُّ هو الاسم الآخر للواجب وصورتُه في المرآة. مما يعني أن قائمة الحقوق الثلاثين الواردة في الإعلان هي قائمة الواجبات الثلاثين التي على كل أفراد شعب المواطنين الاضطلاع بها.
شعب المواطنين هو الشعب الذي قبِلت الأغلبية الساحقة فيه بأنه تَعدّدي أو لا يكون
- شعب المواطنين هو الشعب الذي يَعتبر جلُّ أفراده الحريةَ قيمةً أساسية في سُلّم القيم التي تتحكّم في مواقفهم وتصرّفاتهم، بما هي التعبير الأرقى عن أهم حقٍّ يتمسّكون به: الكرامة. إلا أنهم، خلافا لتصرّفات الرعايا أو الجزء غير الناضج من الشعب أي عامّة السكان، استبطنوا أن الحرية ليست أنْ تفعلَ ما تشاء ولكن أن تفعل هذا الذي تريدُ من دون الإضرار بالغير. هُم يَفهمون الحرية كما يفهمها صاحب سيارةٍ عاقل ومتوازن، لا يقبل أن ينازعه أحدٌ حقّه في السفر بسيارته متى يشاء، مع من يشاء وأنّى يشاء، لكنه يتقيّد بقانون السير وربط الحزام والتأمين والفحص الفني الدوري، لإدراكه أن هدف هذه الضوابط الحفاظُ على حياته وحياة الآخرين، ومن ثَمّ حُسن استعمال حريته، حتى لا تكون لعنةً عليه ووبالا على الآخرين.
- شعب المواطنين هو الشعب الذي استبطن جلُّ أفراده احترامَ أقلياته واحترام الشعوب الأخرى، وحتى احترام كرامة الكائنات الحية غير الآدمية وحقوقها. وقد اتضح اليوم، أكثر من أي فترة من التاريخ، تَرابطُ مصير شعوب الإنسانية بينها وترابط مصير الإنسانية نفسِها بمصير ما نُسميه الطبيعةَ. شعار هذا الشعب الذي أطلقه مانديلا: الإنسان الحرّ ليس الذي يُدافع فقط عن حريته، وإنما الذي يدافع أيضا عن حرية الآخرين.. كلِّ الآخرين. في السياق نفسه، يمكننا القولُ إن الإنسان الكريم ليس الذي يحفظ كرامته ويدافع عنها، وإنما الذي يَحفظ ويدافع عن كرامة الآخرين .. كل الآخرين.
شعب المواطنين هو الشعب الذي ترى جلَّ أفراده غيورين أشدّ الغيرة على حقوقهم الفردية والجماعية
وحدها الديمقراطية تنجح نسبيا في الاقتراب من هذا النوع من المِلكية، أساسا بمؤسّسات المراقبة والردع والصحافة الحرّة والتداول على السلطة الذي يسمح نظريا بتجديد عقد تشغيل الدولة للأكثر إخلاصا وفعالية في إدارة شؤون الناس. لكن يجب ألا نتوهم كثيرا، فحتى الديمقراطية أعجزُ من مواجهة المحتالين واللصوص والفاسدين والأغبياء الذين تعجّ بهم محافلها، ناهيك عن الخصوم والأعداء التقليديين الكامنين دَوما وراء الستار، كابْنِ آوى يَترصّد متى تضعُف الفريسة للانقضاض عليها.
شعب المواطنين مشروعٌ ملامحُه المستقبلية، المطلوبُ منا جميعا بلورتُها على أرض الواقع، مضمنّةٌ في أهم المواثيق الدولية التي تخطّط لمستقبل الإنسان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ أو في دساتير البلدان الأكثر تحرّرا مِثل دستور تونس الذي تشرفتُ بإمضائه يوم 27 يناير/ كانون الثاني 2014. لكنه مشروع لا ينتهي أبدا عند أي Happy end. وكل نَصر على الظلم الذي هو في شيَم النفوس نصرٌ مؤقتٌ، لا بدّ بعده من العودة إلى البناء على الخراب. وكلُّ الأمل أنَّ البَنّاء الجديد يَتعلم من أخطاء البنّاء القديم ليقاوم السقوط أطولَ وقت ممكن.
شعب المواطنين ليس شعبا خياليا آخر، لا علاقة له بالوهم الموجود في التصوّرات الساذجة للشعبويين. هو ليس كائنا طهوريا موجودا من الأزل إلى الأزل.
شعب المواطنين مشروع متواصل ومتسارعُ المسار، نقرأ خصائصه في أحلامنا التي لم تتحقق، في مشاريعنا المجهضة، لكن أيضا في ما تحقق من مكاسب نتيجة نضالاتٍ آتيةٍ من أعماق التاريخ، سواء على الصعيد العالمي أو على الصعيد المحلي.