ما العمل؟
في جلسة نقاشيةٍ، خضعت لقواعد الخصوصية (Chatham House Rules) في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وجّهت إحدى السياسيات المشاركات سؤالاً لرئيس الوزراء السابق، عمر الرزاز (كان يحاضر عن عملية العبور الحرج نحو المستقبل) مفاجئاً: ما الذي يحصل للمثقفين والمفكرين عندما يصلون إلى السلطة؟
بالضرورة، يرتبط السؤال، سطحياً، بتجربة حكومة الرزاز، وهو صاحب أطروحات عديدة في مجال العبور من الريعية إلى الإنتاج، وينتمي إلى مدرسة ديمقراطية إصلاحية، وكان رئيساً للوزراء مدة تزيد على العامين (2018-2020)؟ وربما المسكوت عنه في "نص السؤال" أنّ هذه الأطروحات، على الرغم من أنّها متماسكة وعميقة، إلّا أنّ الناس لم ترَ انعكاسها على الواقع.
لا يُراد هنا نقل نقاشٍ (طلب منا أن يبقى طيّ الخصوصية)، وقد قدّم الرزاز جواباً متدرّجاً منهجياً، لكنّ السؤال، بحدّ ذاته، جدير بالنقاش العميق، وأن يترجم إلى أكثر من صيغة، ويتفرّع إلى تساؤلات (على صيغة مشكلات بحثية)، ويمكن أن نجرّه إلى مساحات أخرى: مثلاً تجربة حزبي العدالة والتنمية في المغرب والنهضة في تونس، وهما، بالمناسبة، متقدّمان في طروحاتهما في مجال البرامج والسياسات العملية، وإذا كان راشد الغنوشي (زعيم حزب النهضة) مفكراً سياسياً إسلامياً بارزاً، فإنّ سعد الدين العثماني (رئيس الوزراء المغربي السابق، والقيادي في حزب العدالة والتنمية) يعتبر مفكراً وفقيهاً بارزاً، وله أطروحات مهمة، فضلاً أنّ الحزبين يمتلكان جهازاً قوياً من أكاديميين وخبراء متخصّصين في السياسات العامة، صحية واقتصادية وسياسية.
الجواب السهل، المعلّب - المؤدلج؛ أنّنا في مرحلة انتقالية، لم تنتقل بعد بالصورة الكاملة، لنحاسب هؤلاء كأنّهم في دول ديمقراطية ويمتلكون السلطة الكاملة، فهم تحت ضغوط وشروط قاسية، وقد يكون ذلك جزئياً صحيحاً، لكنّه ليس الجواب الكامل. وربما أتجاوز أكثر لأقول إنّه ليس السبب الرئيسي، فإذا أخذنا نماذج أخرى، من دون أن نبعد من العالم الإسلامي؛ كالتجربة التركية مع حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الماليزي، مهاتير محمد، سنجد أنّهم تمكّنوا من إحداث نقلات حضارية تاريخية ملموسة في مجتمعاتهم، على الرغم من كلّ العوائق.
ما الفرق؟ هل هنالك أمر ما يتعلق بالسياقات السياسية والتاريخية العربية، مغاير مثلاً للسياقات الماليزية والتركية؟ هل الواقع المجتمعي مختلف؟ لفت أحد الأكاديميين والمثقفين المغاربة، سمير بودينار (في محاضرته بمعهد السياسة والمجتمع في عمّان عن نتائج الانتخابات البرلمانية أخيرا في المغرب وهزيمة حزب العدالة والتنمية المغربي)، إذ رأى أنّ هناك خطوات قامت بها حكومة الحزب لمعالجة الإصلاح الإداري، أدّت إلى فقدانه أصوات طبقة عريضة في المجتمع مرتبطة بموظفي الحكومة الذين شعروا بالضرر من نتائج الإصلاح.
يمكن أن نعمّق التساؤل أكثر، بالنظر اليوم إلى ما حدث في كل من الجزائر ولبنان والسودان والعراق، وهي الدول التي اعتبرت أنّها دشّنت الموجة الثانية من الربيع العربي؛ السودان في قبضة الجيش مرّة أخرى، والجزائر انتهت بلا تغييرات جوهرية، ولبنان عاد إلى هواجسه التاريخية المقلقة، بالإضافة إلى فشل مزمن في الخدمات الأساسية، أما العراق فهو في بؤرة الصراعات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، وهكذا ..
إذا وضعنا هذه الأمثلة متجاورة، وأخذنا معها السياقات السياسية والظروف المجتمعية والأوضاع الاقتصادية ودور العامل الخارجي (القوى الدولية والإقليمية)، فإنّ السؤال يكمن اليوم: ما العمل؟ ما المطلوب من الإصلاحيين، مثقفين وقوى ومفكّرين، كي نخرج من هذه "الدائرة المغلقة"، وقطع مسافات إلى الأمام؟
هي تساؤلات أطرحها في هذا المقال، وهي وإن كانت مرتبطة بالسؤال التقليدي: لماذا تأخّر المسلمون (وفي حالتنا العرب بدرجة أكبر) وتقدّم غيرهم؟ لكنها، مع إضافة تجارب سياسية جديدة منذ مرحلة الربيع العربي، أي منذ عقد، جديرة أن تضيف إلينا مؤشّرات ونتائج وملاحظات مهمة ورئيسية.