ما الذي يجري في تونس؟

19 مايو 2024
+ الخط -

 

سؤال تردّد كثيراً، في الداخل وفي الخارج، بسبب الأحداث التي تلاحقت أخيراً. ولا يعلم أحدٌ لمصلحة مَنْ يحصل هذا التصعيد، والاستنفاران الأمني والسياسي، بشكل يكاد يكون غير مسبوق.
هناك روايتان. تقول الرواية الرسمية، على لسان رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الذي لم يُخفِ غضبَه، وهو يُؤكّد أنّ ما حصل "لا يتعلق أبداً بسلك المحاماة بل بمن تجرّأ وحقّر وطنه في وسائل الإعلام وبمن اعتدى بالعنف على موظّف حال مباشرته لوظيفته". ويقصد بذلك حادثتين. تتعلّق الأولى بالمحامية سنية الدهماني، التي قدّمت وجهة نظر في وسيلة إعلامية، فلوحِقَتْ قضائياً. اختارت الاعتصام في "دار المحامي" فاقتُحِمَت الدار عشرات من رجال الأمن المُلثّمين، وأُوقفت عنوةً أمامَ ذهولِ زملائها واحتجاجهم. أمّا الحادثة الثانية، فتخصّ محامياً آخر، مهدي زقروبة، الذي تفطّن لوجود عنصرَي أمنٍ بزيّ مدني داخل "قصر العدالة "، خلال الاعتصام الاحتجاجي، الذي نظّمه المحامون للمطالبة بإطلاق زميلتهم، فطردهما خارج البناية. وفي المساء، اقتحم البوليس من جديد مقرّ المحامين، واحتجز زقروبة. وجاء في توضيح رئيس الدولة أنّ "دار المحامي" توجد "فوق التراب التونسي ولا تخضع لنظام للأنظمة الإقليمية حتّى يتحصّن بها أحدٌ ويُردّد أنّه تم اقتحامها، فما حصل تمّ في إطار احترام كامل للقانون التونسي الضامن للمساواة وللحقّ في محاكمة عادلة".
في مقابل السردية الرسمية، أصدر عميد المحامين، بمعيّة كلّ العمداء السابقين، بياناً أكّدوا فيه أنّ التدخّل الأمني في دار المحامي، في مناسبتين لإيقاف محاميين في "عملية اقتحام" غير مسبوقة، تُعدّ "خرقاً للمواثيق الدولية وللقوانين واستهدافاً وتصعيداً خطيراً ضدّ المحاماة". كذلك دان العمداء ما أسموها "حملات التحريض على المحاماة وتبرير الاعتداءات على مقرّاتها"، مؤكّدين "علوية القانون ودور المحاماة في الدفاع عن الحقوق والحرّيات والضمانات الممنوحة لمكاتبهم ولمقرات هيئة المحامين". ودعوا إلى "اتخاذ الأشكال النضالية المناسبة". بناءً عليه، توالت بيانات التنديد بما حصل من كُبرى المنظّمات الدولية لحقوق الإنسان، إلى جانب هيئات الدفاع عن المحامين، من مختلف الدول، وهو ما أعاد المواجهة بين النظام التونسي والحكومات الغربية. لهذا، قرّر رئيس الدولة توجيه الدعوة إلى عدة سفراء للاحتجاج "شديد اللهجة " على تدخّلهم في شؤون البلاد الداخلية، وذلك، بعدما أبدت دول غربية، والاتحاد الأوروبي، مخاوفهما إزاء حملة الإيقافات أخيراً.
وبدل اللجوء إلى التخفيف من حالة الاحتقان السياسي، قرّر رئيس الدولة مواجهة المجتمع المدني برمّته من خلال تسليم وزيرة المالية وثيقة تُفيد بتلقّي الجمعيات في تونس مليارين و316 مليون دينار و306 آلاف دينار من الخارج، من سنة 2011 إلى سنة 2023، فضلاً عن تمويلاتٍ "دخلت خلسة إلى الحسابات الجارية في هذه الجمعيات"، مشدّداً على أنّ "أيّ تدخل في شؤون تونس باسم المجتمع المدني مرفوض". أي، بدل تضييق المعركة في حدود ضيقة، تحوّلت إلى مواجهة مفتوحة تشمل النشطاء في مختلف القطاعات، إلى جانب أحزاب المعارضة، وجزء من رجال الأعمال، وغيرهم.
في كلّ مرّة يعود الحديث إلى المرسوم 54، الذي تحوّل إلى سيفٍ مُسلَّط على الجميع. وعندما تصبح حرّية التعبير مُعرّضة للتضييق بهذا الشكل، قد يجد الجميع أنفسهم عرضةً للملاحقة في كلّ لحظة، نتيجة تصريح شفوي أو مقال أو تدوينة على "فيسبوك". وفي هذا السياق، تتّسع دائرة التأويل، ويصبح اجتهاد الجهات الأمنية والقضائية سيّد الموقف. ومع كلّ اعتقال، يتفاقم عدد السجناء، وتتّسع دائرة العائلات المُتضرّرة، إلى جانب الغاضبين من مختلف الأوساط والشرائح. لهذا السبب يعود السؤال مع كلّ حادثٍ يحصل هنا وهناك: إلى أين تسير البلاد؟ فالأطراف والشخصيات، التي انحازت كلّياً إلى النظام، بدأ بعضها يلقي بنفسه من فوق السفينة، والباقي عاجزٌ عن تبرير ما يجري، ولا يدري متى يأتي دورُه.